في 6 فبراير الماضي، استيقظ العالم على مأساة إنسانية موجعة، فقد ضرب زلزال عنيف أرض سوريا وتركيا وخلف حوالي 45 ألفا من الضحايا. توالت مشاهد انهيار أحياء كاملة ومناظر مرعبة لتصدع الأرض؛

ارتفعت الصيحات والتكبيرات، وانفطرت القلوب لهرولة أناس على غير هدى في مشهد يشبه وصف يوم القيامة، لكن أنين الأسر المدفونة تحت الركام،

واستماتة فرق الدعم لإنقاذ من يمكن إنقاذه، كان لهما الأثر الأكبر في نفوس المتابعين، ما دفع بعض من بلغ بهم الألم مبلغه لطرح أسئلة تصنف كنوع من التجاوز،

لكنها في النهاية شكوك تحتاج لردود، فلطالما كانت قناعتي أن هذا العصر يحتاج لخطاب ديني جديد يقدم ما اتفق عليه علماء الإسلام «الثقات» في شكل مناظرة كتلك التي يقوم بها الدعاة في البلاد غير المسلمة.

يعلم المؤمن ويرى بعين اليقين كمال صفات الله لكن يحتاج أن يصل لمنزلة حق اليقين بإعجازها، فالخالق عندما سمي نفسه الخبير عنى أنه الأعلم بما كان وسيكون،

وعندما وصف نفسه بالحكيم قصد أنه مدبر الأقدار، وعندما أخبر أنه اللطيف أراد أنه المتكفل بجبر ما انكسر،

لذا يكون من المدهش أن ينتقده المخلوق المحدود على ما شاء بعلم، وقدر بإتقان، وعالج بلطف!

خلق الله الإنسان فبث فيه من روحه، ومنحه نفحة من صفاته، وعلمه الأسماء، وأورثه الأرض، وبث فيها صورا مصغرة من الغيبيات ومن مشهد القيامة،

بل إنه قرب إليه تصور ذاته العليا بألفاظ كالضحك والبسمة واليد والحب؛ فبرغم تزينه بالعقل، إلا أن الإنسان لا يستطيع بأي حال أن يحيط بمعنى«ليس كمثله شيء».

إن عقل الإنسان قاصر عن استيعاب إرادة الإله المطلقة،

وإدراك سبب خلقه بشرا ضعفاء ليعبدوه وهو الغني، وفهم ديناميكية الاختيار الممنوح لهم! أضرب دائما مثالين  لعجز الخيال البشري بمحاولاته ابتداع شخصيات في أفلام الرعب، والتي تنتهي أفضلها ابتكارا إلى دمج حشرة أو حيوان في هيكل إنسان؛ وباختلاق أحداث روايات لا تتعدى كونها تراكمات فكرية وخبرات حياتية مهما تحورت.

هل تشوش مفهوم الألوهية في الأذهان؟ هل يجب أن يعاد تعريف الإله؟

إن كان الأمر وصل إلى هذا الحد فربما تجدر الإشارة إلى تناسب استجابتي مخلوقين هائلين كالأرض والبحر مثلا -مع عظم تكوينهما قياسا بالإنسان- لأمر «كن» حتى يستعيد الإنسان وعيه بهيمنة العظيم الذي أصدر الأمر!

يتساءل بعض المتألمين: هل الزلزال عقاب من الله؟ لماذا لم يضرب الكيان المحتل؟

لمَاذا لم يعاقب الدول المنحلة أخلاقيا؟ لمَاذا يموت الناس بهذه الصورة المخيفة؟

لماذا سوريا المنكوبة؟ لمَاذا يختبر أناس دون غيرهم؟ ولماذا الاختبار من الأساس؟ أين العدل؟

ينسى الإنسان حين يسأل، أن الله القادر على استبدال البقعة الهالكة هو من اختارها، وأنه ليس غائبا ولا غافلا عن أنات الضحايا؛ وكأن العبد حين يستنكر، يريد أن يعدل بضآلة معرفته على من أحاط بكل شيء علما!

 تعيدنا التساؤلات إلى فكرة اليقين بعدالة الله،

والتسليم الحقيقي لحكمه لما له من مقومات الربوبية،

وتذكرنا بعجز موسى عليه السلام عن الصبر-برغم تحذير الخضر المتكرر له-

لأنه لم ير منطقا في خرق سفينة فقيرة، ولا في قتل نفس صغيرة، أو في إقامة جدار في قرية بخيلة.

إن في التاريخ أسئلة لا حصر لها لا ينبغي أن يتعامل معها الإنسان بمنطق الجزع دون تدبر،

فلكل سؤال جواب شاف يحكمه توقيت محسوب، لو شاء الله لكشفه، لكنه أجل الإجابة ليختبر يقين العبد واجتهاده في الوصول.

يستكثر بعض المستنكرين أن تكون الكوارث انتقاما من الله وقد قص علينا القرآن قصصا عن قرى عذبت انتقاما

لأجل انحرافات ليست بعيدة عما يجري في عالم اليوم، فتقنين الفواحش عالميا،

وما يحدث من انحراف وإهدار في بلاد الإسلام كاف لأن تهتز الأرض وتنشق السماء.

تضرب الظواهر الطبيعية المسلم وغير المسلم،

وبالتأكيد لا تعتبر عقابا فقط، فهي تقع أيضا لتحذر وتخوف؛

ولتذكر بأن ثوان من الغضب الإلهي كفيلة بأن تهلك قرى وتحصد أرواحا؛ ولتخرج خيرات البر والبحر المخبوءة،

ولتجدد ما بدد الإنسان وأفسد في نفسه وفي الكون، فهي كتقلب أهل الكهف وتناوب الفصول الأربعة.

ينتقد الغاضبون الحكم الإلهي وهم لم يطلعوا على تفاصيل حياة الضحايا وعذاباتهم وتضحياتهم ويأسهم وآمالهم ودعائهم وأفكارهم وخيرهمم وشرهم،

لكن من خلقهم سمع ورأى ورتب ودبر، فأمات وأغاث.

يفزع الناس لهلاك الأخيار وعلو الفسدة والعاصين والمجرمين، 

لكنهم قد لا يفطنون إلى أن الله قد يجعل باطن عذاب الصالحين رحمة ومغفرة وخلاصا،

ويمنح الطالحين فرصا للتمادي، ليكون الخسف بهم بقدر العلو والاستكبار والطغيان.

يفضح الله بمصاب الطيبين خبث المنافقين وتبلد المدعين وعمل المفسدين، كما أنه تعالى يجلي معادن نفوس الصالحين،

ويهب توبات للغافلين، ويكشف للتائهين كنوز قلوبهم، ويفجر ينابيع بطولات من تحت الركام ومن بين الجثث.

إن كل الهزات العنيفة تغربل،

تحتاجها المجتمعات والأرواح لتستفيق. يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ،

وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له»،

لذا فإن كنت مؤمنا فلا تشطط في ألمك، وتذكر أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، ادع للمنكوبين، وساعدهم ما استطعت، وراجع أعمالك فما زالت لديك فرصة.