منذ أكثر من ٣٠ عاما كتبت بحثا بعنوان «عقارب بين الصفوف»!.. إي والله!.. هكذا كما قرأتَها تماما؛ عقارب بين الصفوف!..

يعني كنتُ أيامها شابا في الخامسة والعشرين!.. وكنتُ أشعر بهذا الأسى وهذا الخوف وذاك القلق..

كتبته أيامها تحذيرا لأنفسنا من أنفسنا.. من أن نؤتى من قِبَل أنفسنا.. من داخلنا؛ شباب الصحوة!..

ووالله إني لأتعجّب من هذا البحث الساعة!.. فما قرأته بعدها إلا الليلة!.. مع كونه نُشر ضمن بحوث كتاب «بداية الطريق» الذي نشر عام ٢٠١٨.. وطبعا لم أراجع الكتاب بنفسي قبل الطبع؛ ولذلك كثرت فيه الأخطاء المطبعية..

أقول: كيف لشاب مسكين في هذه السِّنّ أن يكون مسكونا بهذا الكم من الخوف والقلق؟!.. لا أدري!..

على كل حال هذه مقدمة البحث في هذه المرة، وفي مرات قادمة إن شاء الله أتحفكم ببعض هذه العقارب كفانا الله وإيّاكم شرها:

الحمد لله.. وبعد..

      فإن الصالحين في الأرض قليل، بل وأقل من القليل، وليت القليل ينجو من مكر الشياطين– شياطين الإنس والجن– بهم، وما أكثر من يمكر بهم في الأرض ليلاً ونهاراً، وسراً وجهراً، وعلى كل حال فالله تعالى لهؤلاء الماكرين بالمرصاد، ولن يضرهم كيدهم شيئاً، بشرط أن يظل القليل صالحين، فبتقوى المتقين وصلاح الصالحين، وقيامهم بحق الله في الأرض، فسيكفيهم ربهم كيد من يكيدهم، كما قال تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا)..

      إذن فلا خوف عليهم من هذه الناحية، إنما الخوف أن، يؤتوا من قِبَل أنفسهم، ومن سيئات أعمالهم، هذا هو الذي يُخاف على أولئك القليل، والشيطان من بعد ذلك لهم بالمرصاد، لا يسكن ولا يهدأ، ولا يستريح ساعة، بل يعمل ليلاً ونهاراً على إفساد ذات بينهم، ولو نام لاسترحنا، ولم يكفنا الله تعالى شر أنفسنا، وكفانا شر أعدائنا ما تمسكنا بالحق واستقمنا على طاعته.

      والصالحون اليوم

هم شباب الصحوة الإسلامية وشيوخها ونساؤها وأطفالها، وبقية يعملون في خفاء، لم يرفع لهم لواء، ولم يعرف لهم ذكر، وثلة باعوا الدنيا واشتروا الأخرة ورضوان ربهم، وغير هؤلاء وهؤلاء لا يعلمهم إلا الله.

        وعلى نقيض ذلك شرذمة في الأرض غير قليلين، يمكرون بهم ويسعون في الأرض فساداً، يجدون الراحة في ظلم العباد وإفساد البلاد،

غرهم بهرج الحياة الدنيا وزيف الباطل وصولته، وغيرهم وغيرهم كثير لا يعلمهم إلا الله.

وغير هؤلاء من شغلتهم الدنيا عن الأخرة، فركبوا المعاصي، وغرتهم المدينة المزيفة،

فنسوا الموت والقبر والنشر والحشر، لكنهم لا يقفون في وجه الحق، ولا يتعرضون للخير والإصلاح، بل هم منهومين في لذاتهم،

ولا يقفون للدين والتدين في طريق، لا همَّ لهم إلا تحصيل شهوات الدنيا وملاذّها.

      فالذين يقفون في وجه الخير والإصلاح ورفعة الدين، تكفّل الله بهم وبدفع شرهم، وأما الذين لا يعترضون طريق الخير ولكن لا يريدونه،

فنسأل الله لنا ولهم الهداية والبصيرة والرشد والتعقل، ونقول لهم: ويحكم أفيقوا قبل فوات الأوان.

      ويبقى البقية الباقية والثلة المصطفاة، الذين يثبت بهم الله تعالى الأرض ويرفع بهم البلاء وينزل بهم الغيث، ويدفع بهم العذاب

(فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ)

      فلهؤلاء أكتب، وعليهم أخاف، ولهم أدعو بالليل والنهار،

وفي البداية أقول لهم: اثبتوا فهذه سنة الله في خلقه، والغلبة للحق مهما رأيتم من ظهور الباطل وعلوه

(وَقلْ لِلَّذِينَ لَا يؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا منْتَظِرُونَ *

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يرْجَعُ الْأَمْرُ كلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) .

      وأقول لهم:

خافوا على أنفسكم من أنفسكم، فبتقواكم وطاعتكم يكفيكم ربكم مكر عدوكم ولكن الخوف عليكم من أنفسكم، والنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله.

      فمن أجل هذا الخوف الشديد والشعور المسيطر كانت تلك الصفحات التي بين يديك، تحذيراً لأنفسنا من أنفسنا،

فنحن جسد واحد وروحنا هي روح الإيمان، فمهما ابتعدت بلادنا واختلفت أجناسنا وتفرقت أهدافنا

فالصحوة الإسلامية لنا جميعاً وبنا جميعاً، عزها عزنا ومجدها مجدنا ونحن أسعد الناس بها وإن اغتاظ المغتاظون.

      ولا بأس أن نحذِّر أنفسنا من أنفسنا، كيف لا وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل خطبة له أن نقول في أولها:

(ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا).

وهل للرسول صلى الله عليه وسلم سيئات أعمال، أو لنفسه الكريمة شرور؟ أم أن الكلام لنا، لنا لنتقِي شرور أنفسنا بصدق اللجوء إلى الله.

شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا

     ولهذا فنحن نعترف– ولا أجد مانعاً من ذلك– بشرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وفي صفوفنا– ولا حول ولا قوة إلا بالله– عقارب وممزقات وقاطعات طريق وثعابين وحيّات، ومثبطات، وغير ذلك كثير، ونحن نلجأ إلى الله ليخلصنا منها بفضله وكرمه وإحسانه.

      وإننا في حاجة ماسّة إلى التخلص من هذه الأدواء، وهذه العقارب القاتلات.

إننا في حاجة إلى دراسة سيرة أسلافنا الكرام الذين أنار الله بهم الأرض، وهتف الكل بفضلهم حتى العِدا.

      أسلافنا الذين طَهُرت قلوبهم، وزكت نفوسهم، وعَمُرت مجالسهم وطابت سيرتهم حتى بعد مماتهم بقرون طويلة،

وكأنهم أحياء، فقد ماتوا وتحيا بذكرهم في مجالسنا قلوبنا.

      فاللهم أصلح فساد نفوسنا وأحي موات قلوبنا وأيقظ الإيمان فيها وزد في إيماننا وثبت بفضلك على الحق شبابنا.

      وهذه أمراض وأدواء رأيتها عياناً، ولمستها بمرارتها وتجرعت بعضها بغصَّتها،

وها نذا ذاكر لك مجموعاً حافلاً من تلك العقارب وهذه القاطعات، لنتخلص منها، ولا خلاص إلا بتوفيق الله عز وجل وتأييده وعونه،

آملين أن تسهم في توحيد الصفوف واجتماع الكلمة.. فيُجمع الشمل ويلتئم الجرح وكلنا أمل في الله تعالى.