ما ينبغي قوله:

لقد عرفت الشيخ منذ نعومة أظافري وكنت أحضر جلساته الخاصة في مقصورة  شيخي أبو أحمد عبد القادر عكاري بمسجد أسامة بن زيد، وكذلك كل ندواته عندما كان يأتي لوهران وأنا شاب يافع..

لازلت أذكر كلامه الكبير والمعاني العميقة في نظرته للحياة وفهمه لطبيعة الصراع الدولي

كان يقول ما كان يلهث به كل جزائري حينها من نصرة الجهاد الفلسطيني والجهاد الأفغاني والجهاد في كشمير.

بل ونصرة كل الشعوب المستضعفة والقضايا العادلة في العالم لقد كلامه لازال يعبق بالثورة الجزائرية المباركة.

لقد كان كلاما لو يقوله أحد المنتسبين إلى مدرسته الآن لاتهم بالإشادة بالإرهاب، ولصنف إرهابيا على لوائح التصنيف الأمني.

ولو قالها سياسيو مدرسته لنزع منهم اعتماد أحزابهم، وخرموا مصادر رزقهم المرتبطة بالسلطة.

 كان الشيخ يفصل في مسألة الهوية بالسهل الممتنع حين يقوى «الإسلام بالعرب قوي وبغير العرب أقوى»

وكان يفصل في الشرعية السياسية عندما سألته مرة عنها فقال (وكانت عادته يخاطب الجميع وهو ينظر إلى شخص واحد) «انتم الشرعيون» وكررها كثيرا في تجمع عند مسجد الشيخ مصطفى غلام في حي الحمري بوهران.

وكان يصف فرنسا بالمغتصب الحضاري

وكان يصف النظام بأنه كالنار يحرق من يقترب منه!!

فعلا (كان الشيخ ابن الشعب ويحمل شعلة النور في يده وينطق بها لسانه) والتي أضاءت للشعب الطريق طيلة الثلاثة عقود الاستبداد الماضية.

  لقد كان هذا قبيل ومطلع التسعينات.

لكن  ماذا حدث بعد ذلك؟!

أحداث ٥ أكتوبر١٩٨٨ كانت «موجة حاملة» نقلت الساحة من الانغلاق السياسي إلى التعددية الحزبية (وليس السياسية وهنا مربط الفرس)

كانت الموجة الحاملة عالية وعنيفة، وكانت حركة الشعب أسرع وأعنف، ولم تتح لأحد أن يلتقط أنفاسه ،

حتى استقر إجماع الشعب على حزب سياسي جديد يضم كل المدارس والمحاضن التي كانت تحت الأرض في عهدة الانغلاق

لقد اِلتفّ الشعب الجزائر ي في مجمله على «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ومعه كثير من أعمدة مدرسة الشيخ نحناح نفسه.

ثم كان انقلاب الطيش ومعه انقلاب الولاءات والإنتماءات:

 لقد خرجت من البلاد وكنت صغيرا في تلك الفترة، وكانت لا تزال شعلة النور في يد الشيخ. 

ثم ما هي إلا سنوات قليلة، حتى كان الانقلاب الدموي على أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ وعلى أرادة الشعب بأكمله.

لم تلبث الأمور إلا قليلا حتى استقرت تلكم الشعلة التي كانت بيد الشيخ.. شعلة الحق.. شعلة الشعب.. استقرت في يد الجلاد المنقلب!؟ ليحرق بها أبناء الشعب!؟

كان للشيخ غفر الله له رؤية سياسية واجتهاد سياسي غير مسبوق في الأمة الإسلامية حينها..

لم يكن أحد يعرف أين سينتهي به اجتهاده.. لكن كان لكل واحد في الساحة اجتهاده أيضا.

 وكل واحد انتهى به اجتهاده إلى مساحة لم يكن يتوقعها، ولم تكن له أدوات استثمارها وإدارتها لصالح الأمة..

لقد كانت دعواهم كلهم واحدة «الإسلام هو الحل»

لقد كانت رؤية قيادة الجبهة الإسلامية «التغيير بوجود النظام» لكن «بتمايز» وعليه شكلوا حزبا سياسيا (ليأخذ الحكم بالمغالبة السياسية)

وكانت رؤية نحناح ومن معه، «الإصلاح داخل النظام» يعني (التغيير الناعم ومن ثمة يرث مؤسسات الدولة) تبين طبعا سذاجة هذه الرؤية وخطورتها.

من جهة مقابلة نجد أن الجبهة الإسلامية انتهى بها اجتهادها في الجبال والسجون والمنفى على أمل أنهم يحسمون عسكريا كما حسموا الأمر «ديمقراطيا»

والشيخ نحناح انتهى به اجتهاده خطيبا على ظهر دبابة الانقلابيين!!

ويطير إلى عدد من الدول ليمارس «دبلوماسية الدبابة» كما سمعته يقول ذلك مرة في إيطاليا.. 

وأصبح بذلك شريكا في حياة سياسية زائفة لنظام انقلابي غير شرعي!

على أمل أن يستعيد الشرعية المنقلب عليها!!

والأغرب من ذلك كله ، كان يعرف جيدا من المنقلب ومن المنقلب عليه!؟

محطة فاصلة:

توفي الشيخ.. بقي الانقلاب، وانقسم أتباعه ليدعي كل واحد منهم اليوم أنه الابن الشرعي لنحناح ومدرسته!؟

إن ما لم أفهمه لحد الآن 

ولم أجد أحدا «لحد الآن» ممن لازالوا يحتفظون «بالنسخة الأصلية لمشروع الشيخ نحناح» يستطيع أن يفسر لي الظاهرة التالية:

 افهم جيدا أن ثوابت الشيخ وأبجدياته التي كانت «ما قبل الانقلاب» في أن تكون «مرجعا سياسيا وفكريا»  لمريديه و«أبناء مدرسته» فقد كان الشيخ بحد ذاته، مدرسة في مقاومة الاحتلال ثم الاستبداد.

الشيخ عباس مدني

لكن ما لا أفهمه حقا هو

(كيف لاجتهاد الشيخ الثاني والذي كان أثناء وبعد الانقلاب، والذي ساعد الانقلابيين.. وغيب إرادة الشعب في محطتين فارقتين في حياة الأمة الجزائرية،

المرة الأولى كانت بدعم الانقلاب نفسه، والمرة الثانية كانت بتنازله عن نتائج الانتخابات الرئاسية بعدما أعطاه الشعب صوته لينقذ البلاد من براثن الانقلابيين، لكنه تنازل دون الرجوع إلى الشعب الذي أعطاه صوته، وقد كان هو الفائز الحقيقي، ليقبل بتزوير الانتخابات، ووقفا يرفع يديه داعيا لبوتفليقة ومزكيا لأكبر عملية تزوير انتخابية، وتمت في وقت حساس للغاية من حياة الجزائريين، ولازلنا نعيش آثارها لحد الآن .

يعني تخيلوا لو أن أردوغان في هذه الرئاسيات تنازل اليوم لكلشدار أوغلوا عن كونه رئيسا، بعدما أعطاه الشعب التركي غالبية أصواته!

  كيف يمكن لمثل هذا الاجتهاد (الذي تبين للشيخ نفسه فساده وتشوهه) أن يصبح مدرسة بديلة  للمدرسة «الأصيلة» و العتيدة للشيخ!؟

كيف «للنسخة المشوّهة» والمصبوغة بدماء الشعب،

أن تحل  مكان «النسخة الأصيلة» لمشروع الشيخ رحمه الله، وتصبح هي المدرسة الوحيدة المنسوبة إليه، بل وجعلها آخر الاجتهادات السياسية و المرجعية

وهي القواعد الصلبة التي استقر عليها اجتهاد الحركة !!؟؟

كيف أمكن اللعب بجينات النسخة الأصيلة للحركة الإسلامية لتخرج لنا هذه النسخة المشوهة والممسوخة!؟

كنت جالسا باسطنبول قبل وباء كورونا 2019 مع أحد الأخوة القدامى جدا في الحركة رحمه الله توفي بالوباء

وكان  ممن حضر  فعالية ذكرى وفاة الشيخ نحناح 

حكى لي الأخ أنه كان واقفا على رأس الشيخ وهو في فراش مرض وفاته

وسأله قائلا «صف لنا النظام بعد طول مشاركتك معه؟»

فكان رده

(النظام كالنار إذا اقتربت منه كثيرا احترقت، وإذا ابتعدت كثيرا عنه بردت)

إن هذا ما يبين جليا من أين أوتي الشيخ رحمه الله، فلم يؤت من المنظومة الدولية وإغراءاتها وقد حاولوا معه كثيرا، ولم يفلحوا.

ولم يؤت من قلة علم أو فهم للدين .

ولكنه أوتي من فهم حقيقة  عصابة الانقلابيين، وأنهم ليسوا شركاء في الوطن، وإنما هم نائبون عن المحتل، والطابور الخامس وحصان طراودة لكل عدو لهوية الشعب الجزائري..

ولقد اطمأن إلى الذين ظلموا وجعلهم مركزا يطوف حول كعبة سلطتهم وإرادتهم وكان هو هامشا.

لقد اختار أن يكون حاجزا يمتص غضبات الشعب ومحاولات تحرره من قبضة الاستبداد.

 أخيرا و أريد أن اختم برجاء

نعن كان مبكرا جدا الحكم على اجتهاد الشيخ  حينها، وإلى أين سيفضي؟

لكن الآن نحن بحاجة حقا إلى دراسات جادة لاجتهاده واجتهاد غيره، وبكل تجرد لاستخلاص العبر.

رحم الله الشيخ نحناح والشيخ عباس مدني وكل من اجتهد لأمتنا من أجل الحرية والدين.

وأعان الجيل الجديد على مهمة الرجوع للنسخة الأصلية.

مقتطف من كتابي القادم  «حراك شعب»

من رضا بودراع

كاتب جزائري، وباحث في الشؤون الاستراتيجية