رضا بودراع

نستكمل مقال «لماذا طالبان وليس الإخوان؟» أهم الفروقات بين طالبان والإخوان، وقد ذكرنا عدداً الفروقات في المقالين الماضيين ونكمل ما بدأناه في السطور التالية.

على مستوى نظرة الأمة والمستضعفين :

لعلي هنا انقل نظرة أتباع الأحزاب الأخرى أنفسهم لجماعاتهم وخياراتها

وبحكم أني شديد الاتصال بشبابهم فلا تسل عن حجم السخط والإحباط من قادتهم وحجم اليأس من الجماعات التقليدية كلها.

ولعل أبرز مؤشر استحضره هنا حجم النزيف الكبير من شباب الإخوان إلى تنظيم داعش في الشام بحثا عن النموذج الأصلي الذي انطلقت منها جماعتهم الأم.

فقد كانت الثورات العربية كاشفة للخط الاستراتيجي للإخوان وولاءهم للنظم الوظيفية على حساب الأمة وشعوبها

فانقسموا على أنفسهم أجنحة ثلاث

تقليدي، إصلاحي، وثور.

فالأول، مقتنع بالنسخ المتحورة.

والثاني، يرى استنقاذ ما يمكن إنقاذه.

والثالث، رجع إلى نسخته الأصلية التحررية.

اليأس من التنظيمات

وما استطيع قوله، والأمر خاضع للنقاش،

إن سواء شباب الإخوان أو باقي الأحزاب الأخرى يئسوا من تنظيماتهم ويعتبرون أنها قد استنفذت أغراضها ولابد من البديل خارج الصندوق 

ومن بقي معهم أنه لم يهتد للبديل.. والجماعات بذلك تنقص ولا تزيد.

في المقابل نجد استقرارا تنظيميا عند طالبان وشرعية القتال أعطتهم قوة استقطاب كبيرة جدا فقد زاد عددهم بعد الفتح أربعة أضعاف في أسبوعين.

ولا أحدثكم عما ترمقه الأمة جميعا من هبة كهبة طالبان وفتح كفتح طالبان في جميع الأقطار المستضعفة.

فالأمة تنظر للإخوان جماعة استنفذت أغراضها مأجورة و الباقي منها مأزور

وترى هي وباقي المستضعفين في الأرض طالبان نموذجا يعطي أملا في التحرر من الهيمنة الدولية.

على مستوى نظرة رب العباد للفريقين 

لست مخولا في الخوض في هذا الحديث العظيم إلا بما يسمح به كلام الله نفسه.

ولست هنا لإسقاطه على الأعيان من الناس فربكم اعلم بمن اتقى.

ولكن الله قال:

{ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ فَقَٰتِلُوٓاْ أَوْلِيَآءَ ٱلشَّيْطَٰنِ ۖ إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا}

إن مثل هذه الآيات يقولها الفرد من طالبان وهو يشعر أن الله يخاطبه هو بعينه ويرى نفسه جندي في منظومة ربانية يتلقى الأوامر منها.

ويقوم بتنزيلها واقعا وفق سياق الأحداث.

فالفرد من طالبان لا زال يشعر أن القرآن يتنزل عليه من رب العالمين

ولعمري كيف تغيب عين الله عن جنده وهي التي لم تغب عمن يعصيه ويحاربه في ملكه

وفي المقابل نجد الفرد في الأحزاب الأخرى يثقل لسانهم وتتشنج عضلات صدورهم حرجا أن يذكروا آيات الجهاد وتحرير البلاد والعباد

وكأن القرآن نزل على محمد النبي صلوات ربي عليه وانتهى

وإذا ذكر الجهاد اشمأزت وجوههم

وإذَا ذكرت الحداثة والدستور وقوانين الدولة و قوانين منظومة الاحتلال الدولية

إذا هم يستبشرون

وشتان بين (ولتصنع على عيني) وبين من صنع في مخابر الدولة الحديثة

شتان شـتان بين النظرتين.

رؤية واستشراف: موت الغرب

إن هزيمة الغرب المدوية في أفغانستان

أسالت حبرًا كثيرًا وربما سيسيل لعقود طويلة في محاولة للسياسيين والمفكرين والعسكريين فهم ما حدث واستشراف تداعياته الممتدة.

غير أن التباين الشديد ببن تحليل نخب الشعوب المهزومة وبين مراكز تفكير قوى الاحتلال الغربي المنهزمة في بلاد ما وراء النهر يدعو للدهشة و الاستهجان.

ففي الوقت الذي تتكلم قوى الغرب والشرق أن هزيمتهم في أفغانستان منعطف تاريخي ستتحرك معه الجغرافيا السياسية و يعيد صياغة العالم

نجد العقول المهزومة والنخب المستضعفة تتكلم عن العبقرية الأمريكية في الانسحابات التكتيكية لخلق عوائق أمام قوى صينية وروسية!!

وفي مشهد مثير للشفقة والتقزز معا

رأينا بعض المراجع الدينية ترفع عصا التقريع لطالبان محذرة إياها من الفشل في إدارة بلدهم بعد تحريره !!!

متناسين تماما ذهول العالم الواعي أمام شهود معجزة عسكرية تضاهي معركة عين جالوت ضد التتر و الثورة الجزائرية ضد الإمبراطورية الفرنسية

أقول بعد هذه المقدمة إنني حتما لن أحاول بيان الحدث عن أية انشقاق القمر فلن تكون ردة الفعل إلا انه سحر مستمر!

ولكني في هذا المقام أريد أولا التذكير بآيات الله وان الله أمرنا أن نفرح بنصره

رغم ما قد يعقبه من قلاقل وفتن لم يسلم منها الصحابة أنفسهم رضوان الله عليهم

ثانيا لا يمكن إغفال القراءة التاريخية التي عاشها هذا الجيل مرتين على الأقل في نصف القرن الماضي فقط.

فالأحداث الكبرى التي غيرت وجه العالم السياسي

تجعل من السهل جدا التنبؤ بالتغيرات الكبرى التي نحن على ابوابها وستفاجئنا في اي لحظة

فانكسار الاتحاد السوفييتي في أفغانستان أعقبه سقوط جدار برلين في1991 وانتهاء فترة الثنائية القطبية أفرزت توازنات قوى جديد شكلت عالمنا السياسي أحادي القطب

واهتزت دول عظمى بسبب هذه التغيرات

رغم أن الأفغان دخلوا بعدها في حرب الأحزاب لسبع سنوات ثم قدوم طالبان واستلامها الحكم

وكذلك سيكون للانكسار الأمريكي وحلفها الغربي والدولي في أفغانستان

تداعيات اخطر بكثير مما تلي سقوط الاتحاد السوفيتي وتفككه

ذلك لان العالم وجد بعده قطبا أمريكيا يرثه

أما الآن فليس هناك قوة عالمية مؤهلة لإرث الإمبراطورية الأمريكية

معنى ذلك أن «ممتلكات» القطب الأمريكي ستكون «محل التنافس الدولي» والعالمي بما في ذلك الشركات واللوبيات الدولية

ولما نتكلم عن الممتلكات نقصد بها المستعمرات ومناطق النفوذ والحماية

بما في ذلك أوروبا نفسها التي تخشى التفكك التلقائي وربما العودة إلى عصر الظلام بعد «الانسحاب الأمريكي الأعظم»

إن العالم كله يتهيأ للانسحاب العظيم

و انتهاء فترة القطبية بفراغ منصب القطب في البناء الدولي

هذا يعني نقض العالم المعاصر الذي تشكلت الدول كلها حول مركزيته

وهُندست عقائد تلكم الدول وهويات شعوبها بمعلومية الأفكار المؤسسة للعالم الغربي

والتي انهارت منظومته القيمية منذ وقت طويل بل إن منظومته القيمية قامت أصلا على الخطيئة الكبرى التي يصفها فوكوياما أنها مركبة من ثلاث مساوئ لا تنجبر الظاهرة الاستعمارية والعبودية وجزية الحياة أو الضريبة على الفرد.

أما ما نراه الآن من شلل دولي فهو مرحلة متقدمة من الانهيار العنيف القادم لهيكل المنظومة والتي تمثل «الدولة» وحدته الأساسية

ومعلوم أن الانهيار يبدأ بشكل ملاحظ ويصل لسرعته القصوى بفعل الجاذبية «جاذبية السنن» إلى القواعد في لمح البصر أين يشكل الارتطام حالة سحق شديدة على مستوى القاعدة وربما ردمت المنطقة بأكملها واختفت.

وهذا ما نراه اليوم «تفكك بعض الدول واختفاءها»

لا شك إن هذه الجاذبية ما هي إلا السنن القاهرة التي نجدها في قوله تعالى:

{قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون}

وما يوحي من تغلب لمنظومات أمنية صغيرة في نماذج الأقطار المغنومة كالجزائر والمغرب ومصر والممالك الخليجية.

كله استقرار زائف وتصلب يستعد فقط للسحق الدولي

انسحابات أخرى

ولاشك أننا مقبلون على تغيرات كبرى فلم يعد ذلك استشرافا بل واقعا أصبح يفرض خيارات مؤلمة على القوى الكبرى فنحن نعيش مرحلة الانسحابات الكبرى والمؤلمة!!

كالانسحاب الأمريكي في أفغانستان وقد يتلوه انسحابات أخرى في العراق وسوريا..

والبريكست البريطاني

والانسحاب الفرنسي من الساحل الإفريقي

وانسحاب الصين من المواجهة في الحرب التجارية الأمريكية

ورفض روسيا والصين عملية استلام أفغانستان وستر العورة الأمريكية

لقد أصبحت الأمور واضحة ونقطة الارتطام حتمية

ولا يحجب عنا تلكم الحقائق إلا وهم تغلب السلطة الوظيفية التي قريبا ستبقى بدون وظائف دولية وتتحول إلى بؤرة فوضى تتفكك معها أجهزة الدولة وتنتعش فيها المليشيات والشركات الأمنية.

ويبقى السؤال هنا ما هو مصيرنا كأمة في خضم هذه التغيرات الهائلة؟

أقول بدون تردد أن هذه التغيرات هي السانحة الكبرى لتخلق امة قائدة مثل امة الإسلام وضياعها يعني كبوة قرن أو قرون أخرى.

من رضا بودراع

كاتب جزائري، وباحث في الشؤون الاستراتيجية