لم نكتب هذه السطور لتكون لائحة دفاع عن السيد اردوغان، وليست بأي حال جزءا من حملة أو دعاية انتخابية لان اردوغان ليس مجرد رقم على بطاقة ناخب.

ولكننا أردنا أن نقرأ ونبحث في مرحلة تاريخية مهمة، وهذا لا يمكن أن يتم دون أن نجد أنفسنا أمام شخصية اردوغان  الذي يفرض نفسه فيكون حاضرا في أي دراسة.

حين يتصدى المرء لدراسة ظاهرة اردوغان فانه من الصعب أن يقوم بدراسة الرجل

في ظل مرحلة تاريخية لازالت تشهد معارك وحروب وصراعات لم تُحسم نتائجها، إذ لا يجوز  دراسة معركة بينما لم تضع الحرب أوزارها.

ولكن الذي يجعل الباحث مضطرا لدراسة اردوغان هو أنك لا يمكن أن تبحث في مرحلة تاريخية

دون أن تقرأ اردوغان لأنه كان وبإجماع المناصرين أو المعارضين يمثل صورة للمرحلة

التي امتدت منذ  ذروة الصعود الإمبراطوري الأمريكي أو ما سمّي بالعصر الأمريكي

وصولا إلى هذه اللحظة التي تشهد حدثا كونيا يتمثل في سقوط النظام الدولي واحتضار العولمة ..

فقد كان قدر الرجل أن يكون زعيما في المرحلة التي تلت تفكك الاتحاد السوفيتي وخروج جمهوريات آسيا الوسطى عن عباءة الحكم الشيوعي ،

مما يفرض على تركيا ان تكون وجها لوجه أمام طموحات إيران وروسيا القيصرية في تلك البقعة من العالم

التي تشكل امتدادا تاريخيا وعرقيا وثقافيا وجيوسياسيا لتركيا.

قَدَرُ الطَّيب أردوغان

وكان قدر اردوغان أن ينتخب زعيما في لحظات حاسمة تمثلت في الغزو الأمريكي للعراق وما تمخض عنه من تقاطعات على المستوى الجغرافي

كون العراق يمثل دولة مجاورة وما ينطوي عليه ذلك من تداخل الجغرافيا والسياسة والدين

وبروز النزعة الصفوية الإيرانية في التمدد في الإقليم عبر ما يسمى نظرية أم القرى وتصدير الثورة وخارطة الهلال الشيعي

مما فرض على تركيا قدرا من مضاعفا من الالتزامات، وخصوصا ان هذا التغير الدراماتيكي في العراق

قد تمخض عنه ما يعرف بالصراع الشيعي السني من جهة، وظهور نواة الدويلة الكردية في شمال العراق،

الأمر الذي جعل تركيا وجها لوجه أمام حركة انفصالية تهدف في النهاية تقسيم تركيا وتهديد أمنها القومي بالصميم.

الظرف التاريخي جعل اردوغان وجها لوجه أمام بداية الانسحاب الأمريكي من المسرح العالمي بعد مستنقع العراق وأفغانستان،

وهذا هو الذي فتح شهية وأطماع القوى الدولية والإقليمية لملء الفراغ مما يهدد مصالح تركيا،

الأمر الذي فرض على صانع القرار أن يعيد صياغة مفهوم ومحددات الأمن القومي.

كان قدر اردوغان أن يتسلم مسؤولية قيادة بلاده في مرحلة تفكك حلف وارسو بعد نهاية الاتحاد السوفيتي

مما أسهم في خلق فراغا في أوربا الشرقية ومنطقة البلقان مما جعل صانع القرار التركي أمام مسؤولية السير وسط حقول من الألغام؛

في منطقة يتداخل فيها البعد الديني والاثني والعرقي والاستراتيجي والعسكري

في ظل السعي الروسي لاستعادة مجد الإمبراطورية القيصرية التي ترتدي الأرثوذكسية وصولا إلى القسطنطينية.

قَدَرُ الطَّيب أردوغان

كان قدر الرجل أن يشهد بدايات تفكك الروابط التاريخية على ضفتي الأطلسي بين الولايات المتحدة وأوربا

والتي وصلت إلى ذروتها في عهد الرئيس ترامب الذي جاهر بدعم اليمين الأوربي المتطرف وإعادة تشكيل القارة الأوربية بعيدا عن مظلة الناتو،

وما رافق  ذلك من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي وعودة ألمانيا لقيادة القاطرة الأوربية وحلم فرنسا باستعادة حلمها الاستعماري في حوض المتوسط.

استلم اردوغان إرثا ثقيلا في الداخل في دولة أنهكتها الانقلابات العسكرية من جهة وهي تعاني من الأثمان الباهظة

التي كانت لازالت تدفعها من جراء نتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية،

مما فرض على صاحب القرار أن يختار لبلاده مشروعا يتماشى مع متطلبات القرن الحادي والعشرين من جهة،

 ويأخذ بنظر الاعتبار خصوصيات أمة تمتلك عمقا تاريخيا بحجم الدولة التركية،

فلم يكن من المعقول الاستمرار في القبول بان تظل تركيا مجرد دولة وظيفية على هامش العلاقات الدولية في وقت أصبح النظام الدولي من الماضي،

وهنا كان لابد لصانع القرار من الصدام عاجلا أم آجلا مع الدولة العميقة التي كانت تمثل جزءا من مراكز نفوذ تديرها الحكومات الأوربية عبر الحدود .

كان قدر اردوغان أن يكون شاهدا على الربيع العربي الذي مثّل هو الآخر بمثابة الزلزال

الذي فرض على تركيا الانغماس في تفاصيله لأنها  لن تتأثر به سلبا أو إيجابا أولا وأخيرا،

زلزال الربيع العربي

فالربيع العربي لم يكن مجرد حدث داخلي لكنه زلزال عابر للحدود وخير مثال على ذلك هو تدفق اللاجئين السوريين إلى تركيا

حتى أصبحت موضوعة اللجوء السوري قضية داخلية تركية وبالتالي ليس بمقدور أي سياسي تركي

سواء كان في الحكم أو المعارضة أن يظل بعيدا عن الانخراط في تفاصيل الربيع العربي والتعامل مع آثاره الإقليمية،

كما حصل في ليبيا التي تقاطعت فيها مصالح ايطاليا وفرنسا وروسيا ومصر وتركت آثارها على  مصالح تركيا الحيوية في البحر المتوسط.

وهكذا فان الرجل لم يتسلم منصبه في دوله طبيعية تعيش ظرفا طبيعيا كما هو حال بقية الدول عبر العالم حيث تكون الظروف طبيعية

وبالتالي يكون دور المسئول أو الزعيم  دورا روتينيا يتمثل في إدارة الحياة اليومية التقليدية للدولة ومؤسساتها،

لكن الأمر اختلف مع اردوغان الذي  وجد بلده وسط العاصفة  فأصبح مجبرا أمام تحديات الوضع الداخلي والإقليمي والدولي أن يتخذ قرارات ترتقي لمستوى تلك التحديات،

وهنا كان عليه اتخاذ القرارات المصيرية التي تتواءم مع طبيعة المرحلة التاريخية

وهذا يقود إلى نتيجة منطقية تتمثل في انه يصبح طبيعيا حين يكون أمام هذا الكم من التحديات أن يتخذ قرارات استثنائية

فيصبح بديهيا بالضرورة أن سيدخل في مواجهات ومعارك حتى لو يكن راغبا فيها

وهنا يأتي العامل الأبرز الذي يتمثل في حكمة المسئول بقيادة شعبة والخروج من هذه المعارك بأقل الخسائر.

وفي النهاية

لابد من القول ان اردوغان حتى في نظر معارضيه ومناوئيه لم يكن مجرد زعيم تقليدي حكم بلاده في ظرف تقليدي

ولكن الظرف التاريخي جعله في صدارة الحدث فيترك بصمته في تاريخ تركيا الحديثة بغض النظر عن كل الاعتبارات الحزبية والانتخابية.

أردوغان كان حاضرا على مائدة الحوار مع كل عائلة عربية ومسلمة في دول المحيط العربي وحاضرا على المائدة عند كل عائلة مسلمة في البلقان،

وبالتالي فان هناك جيلا كاملا بلغ اليوم الثلاثين من العمر  اعتاد على اردوغان وعرف اردوغان

وهذا الجيل في هذا العمر هو الذي يحدد بوصلة الرأي العام ويؤثر في صناعة السياسات

وبالتالي لا يمكن أن ننظر إلى اردوغان باعتباره مجرد مرشح أو مجرد رقم في صندوق الانتخابات.

الحقيقة التي يجب الاعتراف بها

أن شخص الرجل وما يحمل من كاريزما وما شكله  من حضور في حياة الناس سيجعل التحديات صعبة حتى على مناوئيه

إذ أنهم لن يتمكنوا من اقتلاع شخصه من ذاكرة جيل كامل هو اليوم،هذا الجيل الذي رافق اردوغان حتى بلغ عمر الثلاثين

هو الذي يمثل أساس الحياة الثقافية والسياسية والإنتاجية في تركيا وما يجاورها من البلدان، مما يجعلنا اليوم نشفق على أعداء اردوغان.

من عائدة بن عمر

عضو مؤسس في منظمة «إعلاميون حول العالم»