محمد إلهامي، باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية

ثلاث وقفات كبرى في ذكرى الهجرة

رغم شدة تعلق المسلمين بنبيهم وحرصهم الشديد على تتبع سائر أموره، إلا أنهم حين اختاروا التأريخ لأنفسهم لم يختاروا تاريخ مولده ولا بعثته ولا وفاته،

بل اختاروا تاريخ هجرته، ذلك أن الهجرة هي مولد الأمة، وهي انبعاث الأمة، وهذا هو التحقيق العملي لرسالة نبينا ،

فإنما وُلِد النبي وبُعث ليقيم الإسلام، ويُخرج أمةً ويؤسس دولة!

فالهجرة هي اللحظة العظمى في تاريخ الإسلام،

فما قبلها هو خلاف ما بعدها، إنها لحظة الانتقال الكبير من الدعوة إلى الدولة، من الضعف إلى القوة، من الاضطهاد إلى التمكين.. ولولا الهجرة لما قامت دولة الإسلام، ولا نهضت حضارته، ولا أشرقت شمسه على العالمين!

الهجرة هي اللحظة التي تقف في حلوق العلمانيين، لأنها تثبت أن الإسلام ليس مجرد دعوة، وأن النبي؟ ليس مجرد داعية، بل الإسلام دولة، والنبي زعيمها وقاضيها ومفتيها..

وبالهجرة يظهر أن النبي ﷺ

ليس مجرد خطيب، وإنما هو مقاتل ومُنَفِّذٌ للشريعة، فهو يقيم الحدود، ويطبق العقوبات، ويفصل في المنازعات..

وبالهجرة يتجلى أن النبي ﷺ

ليس مجرد صالح بل هو مصلح! وليس مجرد مصلح بالبيان والكتابة والفصاحة والنداء،

بل هو مصلح بالعمل والتأسيس وإقامة السياسة والأمن والحرب والاقتصاد وسائر وجوه الحياة..

أليس مثيراً للتفكير وباعثاً على التأمل أن أتباع النبي انقسموا على ميزان الهجرة، فهؤلاء مهاجرون،

وهؤلاء أنصار! فالذين اتبعوه قبل الهجرة هم المهاجرون، والذين اتبعوه بعد الهجرة هم الأنصار! ولما تنافس الصحابة على سلمان الفارسي،

وهو حالة ملتبسة من الهجرة والنصرة، قال المهاجرون: سلمان منا معشر المهاجرين. وقال الأنصار: سلمان منا معشر الأنصار.

فإذا بالنبي يرفع سلمان فيقول: سلمان منا آل البيت! وتأمل في قوله :

“لولا الهجرة لكنتُ امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْباً وسلك الأنصار شِعْباً لسلكت شِعْبَ الأنصار”!

فتأمل كيف كانت الهجرة أمراً فاصلاً تمايز به المسلمون في مقامات نصرة النبي واتباعه!

الهجرة هي اللحظة التي إذا توقف أمامها المسلمون اليوم،

وتأملوا في دروسها ومعانيها لظهر لهم أن كثيراً مما يفعلونه من سياساتهم في الدعوة والحركة إنما تحتاج إلى مراجعة!

وهذه ثلاثة حروف في دروس الهجرة، كلٌ منها يحتاج وقفةٍ طويلة وتأملا ًكبيراً:

(1)

لا يقوم الإسلام بغير دولة وحُكْمٍ وسُلْطان، ولو كان الإسلام يقوم بغير هذا لما تكلف النبي أن يهاجر من بلده التي هي أحب بلاد الله إلى الله وإليه،

ولا تَكلّف أن ينزع قوماً من ديارهم وأهاليهم وعصبتهم،

في ذلك الزمن الذي كانت عصبة المرء وقبيلته هي هويته وبلده وانتماؤه وحصنه ونصيره!

فهجرة العربي في ذلك الزمن هي بمثابة تخلي المرء عن جنسيته وهويته، وسائر ما يترتب على هذا التخلي، فيتحول إلى مطارَد منبوذ ومطلوب!

كان لا بد للإسلام من دولة يتحقق فيها واقعاً على الأرض،

ولولا هذه الدولة لكان الإسلام مجرد فلسفة ونظرية كالتي أخرجتها عقول الفلاسفة والمفكرين، ترقد على المكتبات ويلوكها الباحثون،

ثم ينصرف كل واحدٍ منهم ليتعامل مع الواقع المفروض عليه.. ما كان الإسلام هكذا،

بالهجرة قامت دولة الإسلام

التي جعلته حقيقة في التاريخ، وقوة في الواقع، وصفحة لا يمكن إزالتها من سجلات البشرية!

وفي المدينة، أي في دولة الإسلام، نزلت التشريعات والأحكام، ورأينا سيرة النبي في السياسة والاجتماع والاقتصاد والعمران والأمن والحرب،

والتعامل مع الأقليات ومع مشكلات الفقر والجهل واللجوء، والانقسامات الاجتماعية وقرب العهد بالجاهلية..

بغير الهجرة وإقامة الدولة ما كان كل هذا ليكون ولا ليُعرف، وإذا حذفنا هذا كله من الإسلام فلم يعد هو الإسلام الذي نزل من عند الله!

وأولى الناس بفهم ضرورة الدولة للدعوة هم المسلمون اليوم، أولئك الذين تحولوا بالفعل إلى أيتام على موائد الدول والقوى العظمى،

منذ أن ضعفت خلافتهم ثم سقطت، فما من زمن هم أشد ضعفاً وتفرقاً فيه من هذا الزمن الذي هم فيه بلا دولة ولا خلافة.

إن الدولة أهم وسائل الإصلاح، وهي أيضاً أهم وسائل الإفساد،

وما من أصحاب دعوة ورسالة كانوا صادقين مع أنفسهم إلا وسعوا من فورهم إلى الحصول على الدولة والحكم والسلطان،

فالناس على دين ملوكهم، وإذا فَهم المسلمون هذا كانوا أشد بذلاً واستعداداً وتضحيةً في سبيل استعادة الحكم والدولة والسلطان،

فما من مفسدة في عالمنا اليوم إلا وللسلطة فيها النصيب الأكبر! ويكاد المسلمون إذا لم ينتبهوا لهذا أن يدخل عليهم الإلحاد والشذوذ في بيوتهم!

وأدلُّ دليلٍ على أهمية إقامة الدولة الإسلامية، انتفاضةُ أعداء الإسلام ليحولوا دون قيامها،

ومؤامرتهم المستمرة ألا يكون أبناء الإسلام في موقع الحكم والسلطة، إنها مسيرة ليس أولها مؤامرة القرشيين لقتل النبي،

ومطاردة المهاجرين ليحولوا دون هجرتهم، وليس آخرها صناعة المؤامرات وتدبير الانقلابات العسكرية ودعم المستبدين،

بل النزول بالجيوش -إن اقتضى الأمر- لمنع سقوط الأنظمة التي صنعوها على أعينهم!

(2)

هاجر المسلمون هجرتين: هجرة إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة، فهجرة الحبشة هي فرارهم بالدين، وهجرة المدينة هي لإقامة الدين..

وهذا أعظم ما يشرح لنا معنى “الوطنية”، ومعنى الارتباط بالوطن، وهو يحدد لنا العلاقة بين الدين والوطن، وماذا لو تناقضا! ففي كلا الهجرتين كان الدين فوق الوطن!

في الهجرة إلى الحبشة كان المسلمون يفرُّون من وطنٍ لا يطيق دينهم، فيختارون أن يهجروا وطنهم وأهلهم إلى بلد غريب، يستطيعون فيه أن يحافظوا على دينهم،

وفي الهجرة إلى المدينة كان المسلمون يفرون من وطن لم يعد صالحاً لأن يكون أرضاً لدينهم فخرجوا إلى بلدٍ اختار أهله أن يكون عاصمة الإسلام.

وبعد استتباب الأمور في المدينة، قدم إليها المهاجرون إلى الحبشة، وقد قدموا إليها كأنهم يرجعون إلى بلدهم لا كأنهم يهاجرون مرتين!

علوّ الدين وتفوقه على معنى الوطن!

وفي الحديث العظيم الذي يرويه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري عن عودة مهاجرة الحبشة إلى المدينة،

يظهر بقوة علوّ الدين وتفوقه على معنى الوطن! ففيه يقول عمر بن الخطاب لأسماء بنت عميس -وكانت من مهاجرة الحبشة-:

“سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله منكم”.

وتأمَّل هنا في استشعار عمر لشرف الهجرة، وشرف السبق إليها، فأجابته أسماء بنت عميس:

“كلا والله، كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار البُعداء البُغضاء بالحبشة،

وذلك في الله وفي رسوله .. ونحن كُنّا نُؤذَى ونُخاف”.

فتأمل هنا في أنها وصفت أرض الحبشة بدار البعداء البغضاء مع أنها كانت آمنة فيها، وذلك أنهم كانوا يدينون بغير الإسلام،

ومع أنهم كانوا في حماية ملكها إلا أن الأمر لا يخلو من بعض الأذى،

ومن الخوف والقلق أن يتغير عليهم الملك والناس! وهذا شعور يعرفه المهاجر جيداً في عصرنا هذا.

وطن الإسلام هو وطنهم

وحتى لما فُتِحت مكة ودخلها الإسلام، بقي النبي وصحابته في المدينة، لقد صار وطن الإسلام هو وطنهم، وانبتّ ما كان بينهم وبين وطنهم الأول!

إدراك هذا الفارق بين الدين والوطن مهم غاية الأهمية، لأنه يرتب أولويات المسلم، وبه يفهم المسلم طبيعة انتمائه وولائه،

وهو أشد أهمية في عصرنا هذا الذي يُراد فيه أن تكون “الوطنية” وثناً جديداً يُعبد من دون الله، ويعلو حتى على رابطة الدين.

نحن الآن في عصر تُسبغ فيه معاني الفخامة والتقديس والتعظيم، على الوطن والدستور والقانون، والحدود والأمن القومي، والمصلحة العليا للبلاد…

إلى آخر هذه الطنطنات التي تحمل في طياتها أن الوطن أهم من الدين وفوق الدين!

حتى إن البعض ليتخذ هذا الكلام مدخلاً نحو التطبيع مع الصهاينة،

وتبريراً لحصار وتجويع المسلمين، واعتذاراً عن إهمال المسلمين وقضاياهم والوقوف إلى جانب أعدائهم وقاتليهم!

(3)

تثبت لنا الهجرة أيضاً أن الإسلام دينٌ لا تطيق الجاهلية التعايش معه،

مثلما لا يطيق هو التعايش مع الجاهلية أيضاً؛

فأما أن الجاهلية لا تطيق التعايش مع الإسلام فهذا شأن المرحلة المكية كلها،

وهو الذي انتهى إلى التدبير لقتل النبي بعد سلسلة من محاولات التضييق والتعذيب والمساومات.

وأما أن الإسلام لا يطيق التعايش مع الجاهلية فهذا شأن المرحلة المدنية، فمنذ اللحظة الأولى أسس النبي النظامَ الإسلامي في المدينة!

ها هنا وقفة مهمة،

ومعنى من أخطر وأعظم المعاني التي يجب أن يستحضرها المسلم والعامل للإسلام..

لقد كان مجتمع المدينة ممزقاً؛ فإن نظرت إليه من جانب الدين رأيت فيه مشركين ويهوداً ومسلمين، وإن نظرت من جانب القبيلة،

رأيت فيه الأوس والخزرج وقبائل اليهود، وأشتاتاً جاءت مسلمة من سائر القبائل.

وكان يعاني مشكلات اقتصادية مزمنة، فهو تحت السيطرة اليهودية الربوية وهم أهل السوق، وقد تدفقت عليه أعداد من المسلمين (اللاجئين)

الذين يجب البحث لهم عن المأوى وسبل العيش. وكان يعاني من أزمة سياسية،

فأهل المدينة بعد حرب بعاث الكبيرة اصطلحوا على تولية عبدالله بن أبيّ بن سلول زعيماً عليهم، وكانوا يرتبون إجراءات التنصيب،

ثم إن المدينة منذ الهجرة انفتحت عليها أزمة سياسية مع محيطها، بل مع عاصمة الجزيرة العربية وأهم مدنها: مكة والطائف!

الرئيس التوافقي

ورغم كل هذه المشكلات الخطيرة والكبيرة، لم يقبل النبي أن ينزل المدينة داعية يطلب الحماية وحرية الدعوة، في ظل الرئيس التوافقي عبدالله بن أبي بن سلول،

بل أسس النبي دولة الإسلام، وكان هو رئيس الدولة وزعيمها ومرجعيتها التشريعية، وسلطتها التنفيذية والقضائية، كما قرّر ذلك في صحيفة المدينة.

لم تحمله هذه المشكلات على أن يفكر في تأجيل إقامة الدولة أو الاكتفاء بمجرد الدور الدعوي، فما لهذا كانت الهجرة إلى المدينة..

لقد كانت هجرة تأسيس الدولة ولم تكن هجرة فرارٍ من الاضطهاد والأذى!

إن هذا المعنى إذا فقهه المسلمون اليوم، عرفوا أنهم يخطئون خطأ فادحاً حين يزهدون في تأسيس الدولة،

أو يبحثون عن رئيس توافقي، أو عن إجماع وطني، أو عن إرضاء لنفوذ إقليمي أو دولي.

إن لحظة تأسيس الدولة هي لحظة يجب ألا تفلت أبداً، ومهما كان حجم التحديات والعوائق يجب ألا يُنظر إليها بوصفها معيقاً عن اقتناص هذه اللحظة.

ونحن في زماننا هذا، وفي تجاربنا القريبة المعاصرة، نرى إلى أين أوصلنا تقديم غير أبناء الإسلام بحثاً عن توافق وطني،

أو إرضاء لرغبة أجنبية، أو تجنباً لضرب التجربة! فما هي إلا أن ضُربت وعدنا كما بدأنا!

إن في الإسلام قوة عظيمة لحل المشكلات،

ولا يزال المسلمون بحاجة إلى دراسة الإجراءات الأولى التي اتخذها النبي عقيب دخوله المدينة،

والتأمل فيها وكيف استطاعت حل هذه المشكلات،

فالمسجد الذي يلتقي المسلمون فيه خمس مرات في اليوم الواحد هو أسرع السبل لتحقيق التماسك الاجتماعي بين أبناء القبائل المختلفة،

والإخاء الذي ابتدعه النبي كان أفضل وسيلة عبر التاريخ لحل مشكلات اللاجئين، وهي المشكلات التي تعجز أمامها اليوم الدول الكبرى ذات الإمكانات الضخمة،

وكتابة الصحيفة كانت خير طريقة لتحديد الحقوق والواجبات، وتوزيع المهمات والمسؤوليات،

وإنشاء السوق كان هو الإجراء الاقتصادي الذي حرر اقتصاد المدينة من سيطرة اليهود، وأوجد فرص عمل للمهاجرين،

وخفف الضغط عن موارد الأنصار! والمقام لا يتسع للتفصيل، وفي هذا الشأن كلام طويل طويل.

والخلاصة

أن لحظة الهجرة هي لحظة حافلة بالدروس والعبر التي نحتاجها في حياتنا المعاصرة،

وقد اخترنا في هذا العدد أن نطوف حول الهجرة في ذكرى بداية العام الهجري الجديد،

وسيرى القارئ كيف أن معايشة السيرة تنير أمام الأمة طريقها،

بشرط أن تكون المعايشة حقيقية، وأن يكون التعامل مع السيرة تعامل التلاميذ مع أستاذهم،

والأتباع مع قائدهم، لا أن تكون مجرد حكاية في مجلس يُتلى كأنه حديث الذكريات!

السيرة ليست مجرد ذكريات.. السيرة هنا، السيرة الآن!

من محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية