فرقٌ كبيرٌ بين التّعلّق بالماضي والعلوق فيه، فالتّعلّق بالماضي تعلقًّا اعتزازيَّا وانتمائيًّا لا يكون سببًا للغياب عن الحاضر، ولا يجوز أن يكون ذريعةً للتقوقع في دهاليز الأحقاب السّالفة، بينما العلوق في الماضي وعدم القدرة على الخروج منه ورؤية سواه هو السبب الرّئيسُ في الغيبوبة عن الواقع المُعاش.

إنّ التعلّق الانتمائيّ والمنهجيّ بكتب التراث وما كتبه القدماء يجب أن يكون نقطة ارتكاز وانتماء إلى سلسلة العلم المتعاقبة المتكاملة، وسبيلًا من سبل الحفاظ على الهويّة، كما يجب أن يكون من جهة أخرى قاعدة انطلاق وحرّضًا على التحليق لمعالجة قضايا الواقع المعاصر؛ فنحن بين طرفين متناقضين الأوّل عالقٌ في الماضي غير قادرٍ على الخروج منه، والثاني مُنبَتٌّ عن ذلك الماضي زاهدٍ به أو مزدرٍ له فيعالج الواقع دون استرشاد بجهود الأسبقين الذين أسسوا للعلوم أسسًا متينة وقعَّدوا له قواعد راشدة، وكلا الطرفين وقع في خللٍ منهجيّ في المعالجة ويعيشُ حالةً مرَضيّةً فكريّةً تحتاجُ إلى علاج.

لا يزال الكثيرُ من مناهج التعليم الشّرعيّ الجامعيّ أو المتوسّط عالقًةً في الماضي من حيث الأحكامُ وأمثلتها، ومن حيث الإسقاط على الوقائع وربطها به.

فلم تستطع هذه المناهج طيّ صفحة الأمثلة التي لم تعد موجودةً في بيئة المتعلّم؛ وهي كانت تناسب حقبةً زمنيّة ألّفت كتب العلوم الشرعيّة فيها.

 فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ لا تزال أحكام الرّق والعبيد والسّبايا حاضرةً بتفاصيل أحكامها الفقهيّة؛ وكان الأجدر بها أن تحضر بوصفها قضيّةً تحتاج الفهم في سياقها الزّمنيّ وبيان آليّات التّعامل الفكريّ معها في هذا الزمن الذي يتم اتخاذها وسيلةً لمهاجمة الإسلام وإثارة الشّبهات في عقول الشّباب حولَه.

كذلك ما تزال الأمثلة في أحكام السياسة بعيدةً في كثيرٍ منها عن الواقع؛ فلا تزال القسمةُ الثّنائيّة إلى دار الإسلام ودار الكفر هي المهيمنة على المناهج في ظلّ تغيّر الواقع السّياسي في العالم كلّه وتبدّل خرائط الأحقاب السّالفة إلى خرائط أكثر تعقيدًا وتشابكًا.

وكم هو مستغرب أن تبقى أبواب الطّهارة في مناهج معاصرة تتحدّث عن قضايا ما عاد النّاس يعرفونها كالاستجمار بالعظم ونحوه.

وما معنى اقتصار الحديث عن أحكام المعادن والرّكاز وحكم عثور شخصٍ على معدنٍ ثمينٍ في باطن الأرض بينما تغيب أحكام الثروات الباطنيّة الهائلة من النفط والغاز والذّهب والفوسفات وغيرها وبيان أحكامها الشرعيّة وملكيّتها على وفق ما يقرّره الشرع، وتغيبُ أحكام احتكار الحاكم لها وكأنّها ملكٌ شخصيّ له ولعائلته؟

وكذلكَ أليسَ من العجيب أن يبقى الحديث في كتب الفقه التي يتمّ تأليفها للمعاهد الشرعيّة والمناهج الجامعية مقتصرًا على حكم إجارة الدّابّة في وقت غدا فيه استئجار الطائرات أمرًا متعارفًا عليه والعالم مقبل على استئجار المركبات الفضائيّة؟!

من الطّوامّ الكبرى أن يكون الطلّاب في قاعاتهم الجامعيّة عالقين في أمثلةٍ على الأحكام الشرعيّة التي يدرسونها لا تمتّ لواقعهم بكثير صلة بينما يموج العالم خارج هذه القاعات بالمتغيّرات المتسارعة في ميادين السّياسة والاقتصاد والمجتمع، وبالوقائع التي تفجّرها التكنولوجيا كلّ يوم ويقفُ النّاس أمامها حائرين في أحكامها الشّرعيّة.

هذا الواقع الجديد الذي تتكاثر فيه القضايا الجديدة، والذي يشهد تحوّلات جذريّة على مستوى العلاقات السياسية والاجتماعيّة والاقتصاديّة ونظام الأسرة والواقع الشّبابي يحتاج إلى مناهج تكون على مستوى بناء طالب علم شرعيّ قادرٍ على فهم هذا الواقع من حوله والتّعامل معه شرعيًّا.

إنّ إعادة إنتاج المناهج الشّرعيّة وفق رؤية تجديديّة تقوم على الانطلاق من الماضي دون العلوق فيه، والتّعامل مع الحاضر ومستجدّاته، والواقع ومسائله، والمجتمع واحتياجاته؛ لهو حاجةٌ ماسّة في هذا الواقع المتغيّر الذي لا ينتظرُ أحدًا ولا يرحمُ متباطئًا.

من محمد خير موسى

كاتب وباحث فلسطيني