الهجرة النبوية بين الشكل والجوهر… قراءة في واقع المسلمين اليوم

المقدمة :

يعيش المسلمون اليوم مناسبة الهجرة النبوية للمرة الألف وأربعمائة وأربع وأربعون حيث يهتم العالم الإسلامي بها كمناسبة عظيمة تجسّد بسببها ومعها الإسلام في الأرض وفي واقع الحياة بكل مناحيها، بل أصبح الحاكم فيها وله سلطان التشريع وهو من يصيغ حياة الناس وسياساتهم ومعاملاتهم في جو مسالم من الخضوع لله ولأحكام دينه العظيم دونما افتئات عليهم بل هو السبب الرئيس في حلول وإحلال السلام الحقيقي الذي يحقق وينجح عمارة الأرض كما أراد الله .

ظاهرة الاحتفال بمناسبة الهجرة النبوية:

لقد انتشرت بين الناس عادات وتقاليد فيها تعبير عن الفرح والتعظيم والإجلال لهذه المناسبة التي ترتبط تحديدا بشخص خير الخلق محمد .

كما عرفت الجماعات والحركات الإسلامية نوعا من النشاط الدعوي الثقافي المتعلق بتلك المناسبة والتي يحيي خلالها الإسلاميون نشاطا ثقافيا يذكر بسيرة النبي مركزا على حادثة الهجرة وما تخلّلها من مشاهد إيمانية وثبات في رحلته صلى الله عليه وسلم مع الصديق أبي بكر رضي الله عنه.

فهل أثمرت وتثمر تلك المناسبة والذكرى المكررة بشكل عملي في واقعنا الفردي والجماعي؟

الفرد والأسرة في ميزان الهجرة النبوية:

لا شك بأن الخير في أمتنا كبير وعظيم ومتجدد إلى يوم الدين، ولكن مدلولات الهجرة في واقع الفرد والجماعة اليوم ضعيفة وبعيدة عن جوهرها رغم كل الخير!

أن أول معاني الهجرة المستفادة هي هجرة الباطل والفساد والمعاصي وما نهى الله عنه، وعليه فان ثمرة إحياء تلك المناسبة ليست في جانب الخير المعتاد الذي عليه الفرد والأسرة! بل إن ثمرتها تكمن في الابتعاد والهجر الذي يمكن أن يحققه الفرد تجاه سلوك ما أو عمل ما أو انتماء أو عصبية ما أو فكرة ما أو خلق ما، سواء اطّلع عليه الآخرون أو بقي حبيسا في النفس.

فالمسلم الواعي الذي يريد صادقا أن يعيش جزءا من معاني الهجرة ويجسدها في حياته واقعا دون الاكتفاء بالجانب الشعوري والاستعراض التاريخي والاحتفال الفلكلوري عليه أن يستغل تلك المناسبة ليراجع نفسه في أقواله وأعماله وخطواته وارتباطاته وينظر إليها بمنظار الشرع ليحدد في كل عام وبشكل متجدد -يحييه من جديد كمهاجر مع رسول الله الأمور التي يجب عليه أن يهجرها ويغادرها ليحقق صورة ومعنى الهجرة في نفسه وأسرته.

أما المسلم الذي يكتفي بقراءة الاستعراض التاريخي للهجرة متفاعلا معها من النواحي النفسية ومحتفلا بها كمناسبة اجتماعية فانه لن يناله منها إلا زيادة في الوزن وجمود في الوعي .

الحركات الإسلامية في ميزان الهجرة النبوية :

وإذا نظرنا إلى واقع الجماعات والحركات الإسلامية فان ما يسري على الأفراد يسري عليها ، غير أنها أكثر أهمية وأكبر دلالة ومآلا في واقع المسلمين اليوم.

ومن المشاهد في عموم الحركات الإسلامية أن الدعاة والقيادات يدلون بدلوهم في تلك المناسبة العظيمة ابتداء من المباركات الرسمية وانتهاء بطرح استعراض تاريخي للسيرة دونما تطرّق عملي لمدلولات هجرة النبي

والتي شكلت منعرجا في تاريخ البشرية، الأمر الذي وعاه الصحابة رضوان الله عليهم

وجعل الفاروق عمر رضي الله عنه يقرر تاريخ المسلمين ابتداء من هجرة النبي

وليس من تاريخ وفاته أو ميلاده كما هو معتاد في تاريخ الأمم والشعوب.

فهل رأيت حركة أو حزبا أو جماعة إسلامية تقتدي بالنبي الأمين

وتعلن عن هجرتها وهجرها للباطل وسياساته أو لموقفها الخاطئ أو لخطوتها الآثمة

وترجع للحق مستمسكة بالعروة الوثقى؟

غياب منهج الهجرة في فلسطين (نموذجا):

من نافلة القول أن المسار الفلسطيني بشقيه الوطني والإسلامي خرج عن السكة القويمة

وأضاع البوصلة الصحيحة بسبب تبنيه لمناهج وخطوات وسياسات ضلّت الطريق وجانبت الحق،

حتى عميت وأعمت الخلق عن طريق ودلالة هجرة النبي ،

وبدل أن تخرج من مكة وتفارق قريشا ذاهبة للمدينة وأهلها،

عكست الطريق وهجرت المدينة وأهلها ذاهبة لأحضان أبي جهل مجاورة لأبي لهب مستمسكة بالعروة الدنيا .

التيار الوطني الفلسطيني والهجرة المعاكسة:

انطلق التيار الوطني في فلسطين على يد الحاج محمد أمين الحسيني رحمه الله،

وقد قدم الشعب الفلسطيني في مساره تضحيات جليلة -على رأسها المعارك التي قادها واستشهد بها عبد القادر الحسيني-

لا يسع المقام لذكر وإحصاء شبابها ونسائها وشيوخها الأشاوس،

حتى باتت فلسطين أيقونة ثورية تلهم الثوار في الأرض، فماذا حصل؟

هاجرت قيادة التيار الوطني الفلسطيني بعد عقود من النضال إلى كفار قريش مستمرئة للتنسيق الأمني مع العدو الصهيوني،

ومصرّة على تقعيد هذا الباطل ووصفه زورا وعن وعي واستكبار بأنه مسار ضروري لخدمة الشعب الفلسطيني في سياق نصرة الأقصى وتحرير فلسطين!

فهل تتقاطع تلك الهجرة مع هجرة النبي ،

أم تتقاطع مع شرع اليهود الضالين من بني إسرائيل

الذين امتهنوا تلبيس الحق باطلا والباطل حقا ثم استكبروا على شريعة النبيين وقتلوا بعضهم مستكبرين؟

التيار الإسلامي الفلسطيني والهجرة المعاكسة:

منذ انطلاقة حركة حماس استبشر المسلمون خيرا في هجرة إلى الله ورسوله تصوّب المسار الفلسطيني نحو بوصلة الأمة والدين

لتسير على صراط مستقيم وعلى بينة تشفي قلوب العلماء والغيورين، فماذا حصل؟

انطلقت مسيرة الجهاد والاستشهاد وسقط المئات من الدعاة والعلماء والقيادات

وكان منهم وعلى رأسهم الرنتيسي والياسين -رحمهما الله وأسكنهما في عليين-، حتى جاء ثلّة من الضلاليين الدنيويين

وقاموا بهجرة من ساحات الجهاد على بصيرة ومن واحات الإيمان الناصع والحق المبين نحو كفار قريش

وأعلنوا حلفهم مع الملالي الإيرانيين واستنصروا بأحزاب الشياطين

تاركين خلفهم نهج قائدهم البنا وقطب وعزام والياسين ومن قبلهم نهج النبيين وملة إبراهيم

ومصرين على أن هذا دين قويم يرضي الله ويحقق منافع للأقصى والدين ولفلسطين

مستدلين على ذلك ببعض الرهبان من علماء التنظيم

مع أن الفطرة السوية -قبل الدين- تشهد بأن هجرتهم للملالي المعتدين أسوأ من انحياز لأبي جهل

أما هجرتهم لبشار الأسد فهي أسوأ من حلف مع أبي لهب الرجيم!

فهل تتقاطع تلك الهجرة مع هجرة النبي ،

أم تتقاطع مع شرع اليهود الضالين من بني إسرائيل الذين امتهنوا تلبيس الحق باطلا والباطل حقا ثم استكبروا على شريعة النبيين وقتلوا بعضهم مستكبرين؟

الهجرة الغائبة في عموم حركات المسلمين اليوم:

لا شك بأننا نعيش زمنا كثرت فيه الفتن وشاع فيه الضلال وهو مصداق حديث رسول الله ، فعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما

قال سمعت رسول الله يقول: لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة. انتهى الحديث،

وهو ما يوجب جهدا مضاعفا ونوعيا وعميقا على علماء الدين الرساليين بعيدا عن علماء السلاطين

أو علماء التنظيم الذين يرومون نصر الحزب والحركة والجماعة حتى لو غابت الحقائق وهزم الدين

وذلك من خلال أضعاف صورة الحق وتلبيسه باطلا لأجل بعض المكاسب في الميادين.

الخاتمة:

إن الهجرة النبوية العظيمة قد جسّدت مفاصلة مع الإثم والباطل والمعنى الإيماني العظيم بأن التأييد والنصر من عند الله وحده لا شريك له،

وهو المعنى الذي يجب أن يعيشه الفرد والجماعة المسلمة في كل يوم ومع كل نفس وشهيق حتى يلقى الله سبحانه وتعالى،

 بل هو المعنى والتجربة التي تملؤه قلبيا وفكريا بالقوة في مواجهة الباطل

رغم غياب التوازن في الموازين الأرضية وهو ما حصل في تجارب المصلحين وسير المرسلين،

فحريّ بمناسباتها السنوية أن تذكر الغافلين عن صورة عظيمة في مفارقة الباطل والهجرة نحو الحق وأهله

والتي لم يكن فيها أي تكافئ بين فريق الحق وفريق الباطل ولكنّها أورثت نصرا وعزّا ومجدا نعيش على أثره وبركته حتى اليوم،

فمن أين جاءت تلك المناهج التي جعلت الضرورة منهجا ودينا يسوّغ إتلاف وإسقاط القيم

ويقتصر في نظره المصلحي في حدود أبعاد رئته ومعدته وبني قومه دون النظر لعموم المسلمين ودون اعتبار مآلات هذا المنهج على حقائق الدين،

ودون اعتبار أن المبادئ والقيم والأخلاق هي أهم ما يميز هذا الدين وهي سبب في دخول العالمين.

إن عظمة الله وقوته وجلاله بادية في هجرة النبي إذ نصر عبده وأعزّ جنده ومكّن للدين وأهله رغم فقرهم وضعفهم واختلال الموازين،

فكيف يدعي فهم هجرة النبي من يطمس حقائق وطهر الدين ثم ينحاز للكفار والمعتدين

ويتحالف مع المجرمين مشرعنا ذلك في طلب نصرتهم وعونهم للمؤمنين وهو يقرأ في صلاته

(وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم)

آل عمران 126 .

إن بقاء الإسلاميين بعيدا عن معاني ودلالات هجرة النبي

ودون اصطفاف مع المؤمنين وانحيازهم لمحاور الباطل يشكّل فتنة لأجيال المسلمين،

لاسيما والهوّة تكبر بينهم وبين عموم الأجيال والقادمين في ظل خصم متربص يدفع نحو هجرة للباطل في كل أشكاله وأطره وفلسفاته ومعانيه،

فهل يعي خطورة خطواتهم العاملين في قضايا الدعوة والشأن العام للمسلمين .

مضر أبو الهيجاء (أبو عبد الله) 

كتب بمناسبة هجرة النبي الأمين ، في الأول من محرم 1444 هجرية الموافق 30-7-2022