د. صالح الرقب

الحمد لله الذي نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده.

يمثل سقوط حكومة أشرف غني ودخول طالبان العاصمة كابل حدثا مهما ومفصليا في واقع أمة الإسلام،

ويمكن اعتباره مؤشرا على تغييرات كبرى في واقع العالم الإسلامي، وبغض النظر عن خلفيات هذا الحدث فهو نصر مبين أعز الله فيه المؤمنين وأخزى أعداء الدين.

وهذا النصر له أسباب عديدة أو لنقل مجتمعة، منها ما يتعلق بثبات طالبان ومصابرتهم،

ومنها ما يتعلق بقبول وترحيب الشعب الأفغاني بحكم طالبان، ومنها ما يتعلق بفساد حكومة كابل السابقة وظلمها للشعب الأفغاني،

ومنها خارحي يتعلق ببوادر نشوء توجه دولي يدعم التوجه الإسلامي لصالح أجندته الخاصة.

إلا أن ثمة عاملا حاسما ومهما يجب الالتفات إليه وتحليله تحليلا عميقا بعيدا عن العواطف والتحشيد الإعلامي،

وتكمن خطورة هذا العامل في آثاره اللاحقة لهذا النصر والتبعات المترتبة عليه،

ولو استرجعنا بذاكرتنا حدث سقوط كابل في التسعينات الميلادية سنجد أنه كان نصرا للمجاهدين الأفغان،

غير أن الأحداث التي تلت سقوط كابل وخلاف المجاهدين كان أهم وأعمق أثرا من سقوط كابل ذاتها.

السقوط السريع لجميع الولايات

وكذلك الحال في هذا السقوط السريع والمتتابع للعاصمة كابل وجميع الولايات الأفغانية،

فسقوط كابل بيد طالبان كان أشبه بعملية التسليم والاستلام،

وكذلك الحال لبقية الولايات في أفغانستان التي لم تشهد سوى بعض جيوب المقاومة اليسيرة،

والتساؤل الكبير كيف سقطت كابل بهذه السرعة المفاجئة وبهذه السهولة ؟!.

وهنا لابد من العودة للبداية الحقيقة للأحداث المتمثلة في توقيع الولايات المتحدة الأمريكية لمعاهدة السلام مع طالبان واعتماد تلك الاتفاقية من مجلس الأمن،

حيث سنجد أن المعاهدة وافقت فيها أمريكا على قيام حكومة طالبان ومنحتها الشرعية الكاملة،

وجعلتها الطرف الفاعل والمرجعي في الواقع الأفغاني بغض النظر عن التلاعب بالعبارات التي تنص على عدم اعتراف الولايات المتحدة بطالبان،

وماذا يعني أن لا تعترف أمريكا بطالبان وتتفق معها علانية على جميع إجراءات السيطرة على أفغانستان؟!.

هزيمة أمريكا

التفسير العام والذي تروج له الولايات المتحدة الأمريكية لهذه الاتفاقية وانسحابها من أفغانستان هو الخسائر الفادحة البشرية والمادية التي منيت بها أمريكا،

وبتعبير أوساطنا الإسلامية نسميه هزيمة أمريكا وفرارها من المستنقع الأفغاني،

وهذا التفسير تكرس له الآلة الإعلامية والتصريحات الإعلامية الأمريكية لتستند إليه كتبرير لانسحابها من أفغانستان،

وعلى كل فقد قدمت أمريكا كابل لطالبان على طبق من ذهب، والحمد لله الذي ينصر هذا الدين بألد أعدائه.

وإذا ما نظرنا إلى الأحداث فلا يمكن تفسيرها بأنها هرب للأمريكان وانهيار لحكومة كابل الموالية لهم،

ولا يمكن لإجراء أمريكا بسحب ٢٠٠٠٠٠ جندي أمريكي أن يكون له كل هذه الآثار.

التسليم المهين للحكومة العميلة

لقد تعمدت أمريكا إزاحة الحكومة الموالية لها في كابل وإسقاطها من خلال إصابتها بشلل كامل وبث الهلع والرعب في جميع مفاصلها،

ومنعها من استخدام قوتها الجبارة فالجيش الأفغاني مسلح بأقوى أنواع الأسلحة بما فيها الطيران،

وهذا الدعم اللوجستي الذي بلغ ذروته بخروج أشرف غني من أفغانستان،

هو السبب الحقيقي لسقوط كابل بهذه الصورة السريعة والمفاجئة للجميع حتى لطالبان أنفسهم،

 ولو لجأت حكومة أشرف غني لاستخدام الطيران فقط لأعاقت تقدم طالبان البري بكل سهولة،

كما أنها لو قررت المقاومة لكان الاحتراب الداخلي واقعا أفغانيا لسنوات عدة،

لكن هذه الحكومة قد أمرت بالتسليم المهين بهذه الصورة التي لم تتمكن فيها حتى من حفظ ماء الوجه.

وإذا كان الأمر بهذا الاعتبار فلن تكون نصرة أمريكا لطالبان بقصد نصرة الإسلام والمسلمين،

ولابد أن يكون لأمريكا أهدافها وأجندتها الخاصة التي ستكون أهم من سقوط كابل،

واستشرافنا لمآلات هذه الأوضاع سيعيننا على التعامل مع مستجدات الأحداث بعقل وحكمة.

ومن المتوقع أن الولايات المتحدة الأمريكية تريد تكرار سيناريو الثمانينات الذي حشدت فيه العالم الإسلامي لإسقاط الاتحاد السوفيتي،

وسيكون العدو الجديد الذي يراد إسقاطه هم الأعداء الإستراتيجيون الجدد الذين ذكرهم بايدن مؤخرا إبان قمة العشرين:

الصين وروسيا وتركيا،

وهؤلاء الأعداء يدركون تماما آثار سقوط كابل عليهم، ويستعدون للمواجهة والمشاركة في المعركة بعدة صور.

ويمكن أن نورد عدة سيناريوهات محتملة لمآلات دخول طالبان إلى كابل نجملها فيما يلي :

السيناريو الأول

هو مشهد الفوضى العارمة  الذي تسود فيها أفغانستان حرب العصابات..

وتتواجه طالبان مباشرة مع الروس والصينين من خلال جيش من الأوربك والطاحيك وربما التركمان والايرانيين،

والذي سيرجح هذا المشهد هو لجوء الصين وحليفها الروسي للتدخل المباشر في أفغانستان،

وللأسف لن يكون هذا غالبا إلا بجيش من أهلنا في طاجكستان وأوزبكستان غالبا،

ومن المرجح أن هذه المواجهات ستكون حروب عصابات استنزافية طويلة المدى،

والاحتمال الأضعف لتدخل الصين وروسيا أن يكون بجيشيهما مباشرة، وفي كلا الحالتين ستكون أفغانستان محرقة لهذا التدخل.

السيناريو الثاني

يسود في هذا السيناريو الاستقرار في عموم أفغانستان،

فمن المرجح أن يتم تهيئة أفغانستان لتكون حاضنة لمسلمي الأيغور السنة وداعمة لجهاد عريض ضد الصين،

وهذا المشهد تسير الأمور باتجاهه ما لم تبادر الصين وروسيا لخلط الأوراق بالتدخل المباشر في أفغانستان.

السيناريو الثالث

أن يكون لدى أمريكا أهداف وأجندة أقل طموحا مما ذكرناه سابقا،

تتعلق بإعادة ترتيب أوضاع ونفوذ القوى في آسيا الوسطى والهند وإيران، وهذا الاحتمال هو الأضعف والأقل تأثيرا.

والنتيجة التي يجب التأكيد عليها هنا أنه لا يمكن أن يكون ما فعلته أمريكا دون هدف غير معلن ستكشفه الأيام القادمة،

بل إنه من السذاجة والسطحية المفرطة أن تكون هذه الاحتمالية واردة لدينا،

سيما مع إمكان أمريكا أن تحافظ على مكتسباتها في أفغانستان،

وأشد التبريرات سذاجة وتهورا تلك التي تفسر ما حدث أنه هرب من المستنقع الأفغاني فحسب.

وصايا ونصح

١- على عقلاء الأمة أن يستثمروا هذه الأحداث لصالح الإسلام والمسلمين بكل الصور المتاحة فهي تحمل خيرا كثيرا بإذن الله تعالى.

٢ – لابد من اختيار الجهة التي سنقف معها من أطراف الصراع،

وأنا أرشح هنا أمريكا فهم أقرب إلينا مودة وأقل عداوة من المشركين أو الطرف الآخر الذين تمثلهم أو تقودهم الصين.

٣ – لابد من استثمار هذا التحالف لتحقيق مكاسب للإسلام والمسلمين طويلة المدى،

وأن تسعى الدول الإسلامية التي ستدعم المشروع الأمريكي لتحقيق مكاسب استراتيجبة جيوسياسية واقتصادية وعسكرية.

٤ – من أهم المحاذير التي يجب التنبيه عليها تجنب أخطاء تجاربنا الماضية في التحشيد العاطفي غير الموجه،

وما آلت إليه تجربة الجهاد الأفغاني من أخطاء إستراتيجية وظفت لحرب الإسلام والمسلمين.

٥ – من المتوقع حدوث موجة هجرة من عموم العالم الإسلامي إلى أفغانستان،

وهذه الهجرة لها ميزة أنها ستحمل معها خبرات وقدرات بشرية هائلة ستدعم الواقع الأفغاني،

كما أن لها خطورة أنها ستجتذب مكونات واقعنا الإسلامي المنحرفة سواء تلك الغالية أو الأخرى المفرطة،

لذا يجب ترشيد هذا الأمر قبل حدوثه، ومن المهم أن لا نغرق في دعم هذا التحشيد بتصوير أفغانستان أرضا للميعاد والنصر.

حجر الزاوية في الواقع الأفغاني

٦- حجر الزاوية في الواقع الأفغاني هي طالبان، ومع شيء يسير من الحماقة والتهور ستكون طالبان ذراعا أمريكية هوجاء لاتبقي ولا تذر،

ونوصي طالبان أن تتعقل قبل خوض أي مواجهة وأن يكون قرارها منضبطا بالفتوى الشرعية التي تحقق مصالح السياسة الشرعية للأحداث،

وأن تجعل ضمن أولوياتها ضمان استقرار الواقع الأفغاني واستقرار محيط أفغانستان أيضا،

وتعامل طالبان الراشد في هذا الاتجاه هو أهم ما نوصي به في هذه المرحلة الحرجة للغاية.

٦- نوصي ونحذر بأشد العبارات أهلنا في طاجكستان وأوزبكستان بالحذر الشديد من التورط بالتدخل العسكري المباشر في أفغانستان،

يمكن للطاحيك والأوزبك الموائمة ما بين تحالفهم مع روسيا وخدمة الأجندة الأمريكية بعيدا عن التدخل العسكري المباشر الذي سيكون كارثة بكل المقاييس،

ولا يقل عن هذا الأمر سوء أن تكون أراضي الطاجيك والأوزبك حاضنة لتدخل عسكري أجنبي في أفغانستان للروس أو الصينيين.

تركيا وباكستان دولتان محوريتان

٧- من المتوقع أن تكون تركيا وباكستان دولتان محوريتان في تحشيد العالم الإسلامي للأجندة الأمريكية الخفية،

وعلى هاتين الدولتين أن تتوازنا في تحقيق مصالحهما وتحالفهما الاثني مع ما يطلب منهما أمريكيا،

وان تتحول المعادلة إلى أن يكون الواقع الأفغاني جزء من أمنهما وثقلهما الجيوسياسي يوجهانه لمصلحة العالم الإسلامي،

وأما انفلات الأوضاع وتحول أفغانستان لساحة صراع مفتوحة فستكون هاتين الدولتين من أعظم الخاسرين.

٨- نوصي بأن يكون هناك تحالف، فإن لم يكن فتعاون بين تركيا وباكستان من جهة، وطاجكستان واوزبكستان من جهة أخرى.

٩ – نحذر بشدة من أن أي مواجهة تتورط فيها طالبان أو حتى تستدفع إليها مع الدول الإسلامية المحيطة بها أو تركيا، حيث سيكون هدا الأمر حماقة لا تغتفر.

وأخيرا فلم تعد مؤامرات الشرق والغرب تخفى على أمة الإسلام، واليقين أن الله يصنع لأمة الإسلام عودتها لقيادة البشرية وان كان ذلك بيد أعدائها، وهذا من لطف تدبير الله وحكمته.

 سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

من د. صالح الرقب

أستاذ العقيدة، بالجامعة الإسلامية، فلسطين