أعني بـ أهل الله حملة كتاب الله وحفاظه، وأئمة المساجد،الذين كتبوا القرآن في الالواح حرفا حرفا، وعكفوا عليه ترديدا وتكريرا، حتى تعطرت به الآذان، وأشبعوه مراجعة ومعاودة حتى رسخ في الأذهان.هم القوم الذين خالط كلام ربهم أنفاسهم، وصارت ألفاظه ومعانيه ذرات في تكوينهم، تتمشى في مفاصلهم، وتسري في أوصالهم، ألفتها أسماعهم، وحفظتها قلوبهم، وعشقتها أرواحهم، ورسخت في أعماقهم آيات مبينات تتلى،وسور محكمات تنزل من اللوح المحفوظ وقرت على صفحات صدورهم وكَمَنت -على جلالتها- في أفئدتهم.

فإذا وقفوا بها مصلين، أو جلسوا لها مرتلين الآيات على الألسنة طرية، وتزاحمت على الشفاه طلِية،ما يأخذك -أيها المؤمن- في رحلة نورانية، تأتلق فيها الحكمة الإلهية، وتتلذذ بالوحي الرباني، والكلام العالي، والبيان البديع والرفيع

أولئك -يا صاحبي- هم خير هذه الأمة، وأهل فضلها، وسادة الدنيا، وأولياء الله، وملح الأرض، وقطرات الندى في جفاف العمى ومستقر كلمات الله، والمتنقلون بسره العظيم

يكفيهم شرفا أن الله خصهم بكلامه، واصطافهم لحمل وحيه.نظر الله إلى قلوبهم فوجدها صافية نقية، صاحية لينة، فأودعها كلامه، وصب في تلافيفها وحيه، {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا}

فلا غَرْو أن يكونوا خاصة الخاصة،وخلاصة النخبة الذين يسمع الكون إلى أصواتهم،ويخشع الوجود لما يرتلون ويقرأون وتسري قشعريرة الرهبة في القلوب والجلود، وتطمئن النفس لحقائقه وترتاح الروح وتفرح

لكن للأسف الشديد أن الدهر وأهله، أخروا مقام هؤلاء، وتنكروا لأقدارهم ونفضوا أيديهم منهم، ولم يجِلوا فيهم ما يحملون، ولم يبجلوهم كما يستحقون،ذلك لأن بهرجة الباطل، وتزاويق الضلال، وضجيج الهراء،وسطوع ألون الغباء، وقلب الحقائق،شغل الناس عن وقار القرآن وضخامة الكتاب، وهدوء الحق، وبهاء أهل الله، وسكينة الصالحين

عميت أبصار عن سمت الخير، ومخايل الفلاح، وصمت آذان عن صولة اليقين، وقوارع الحجج، ولوامع الثواب، وتعثر العقل في حبائل الأهواء, ودخل في سبات الاغترار.

ليس ذلك آخر سفالة العصر وسخافته أن لم يسمح لهذه الفئة بموطئ قدم في وظائف الدولة، ولا بوضع مقنن في رواتبها المبذولة حتى للعابثين واللاعبين والراقصين.أما إذا مَنت عليهم فإنها تَمن بأقل الفتات، لا يكاد يبقي إلا على رمق الحياة

يا هؤلاء: إن المروءة والشهامة تأبى أن تتعامى عن مكانة هؤلاء أو تسمح بإهانتهم، تأبى لأنها تعرف أقدار الكرام، وتزن بغير ما يزن به هؤلاء الأقوام.

ويأبى الدين العظيم أن يكون أهله أهون الناس شأنا وأقلهم قدرا، وأذلهم قبيلا، وأحناهم جباها، وأضعفهم صوتا، وهم كما قيل قديما:

ولا يَردُون الماءَ إلا عشيةً.إذا صدر الوارد عن كل منهل

بل لا يسمح لهم أن يردوه أصلا

إذا كان الحديث الشريف يقول :«لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة» فعرف له قدره لإيقاظه للصلوات، وحفظ له حرمته لتذكره بالأوقات فما بالك بمن يمارس ذلك تقربا لربه وتعبدا، ويفقه ما يفعل، ويؤم بكلام الله المؤمنين، ويقود الناس إلى رب العالمين.

والعقل السوي يأبى أن تضع أهل الكتاب المبارك،في مقام دني أو منزلة زَرية، ومكان مَهين

إن وضع أهل الذكر في منزلة واحدة مع الدهماء، وجعلهم سواسية مع الهمج الساقط، يعتبر وصمة في ميزان التمييز، ونقصنا معيبا في إدراك الفوارق، وتضييعا لمقاييس الفرادة والاستحقاق. وفي الحديث الشريف «نزلوا الناس منازلهم»

كل هذا حصل في السنوات الأخيرة لما تسلل إلى وزارة الأوقاف من ليس من أهلها، وتسنم وظائفها من أتاها من ظهرها لا من بابها،ما سبب كثيرا من الأذى والكرب لأهل المساجد،وحصل لهم الهوان المبين.لا من باب تقليل الرواتب ونزفها، ولا من باب «التوقيفات» الجائرة فحسب -وهذا كله لو تعلمون عظيم- لكن مربط الفرس في المشكلة، ما سلكته الوزارة المعنية من اتباع سياسة الإذلال،ونزع المصداقية، وتحطيم الشمَم والأنفة لدى الفقيه، وترويضه على التبعية والخنوع، وإلزامه بالتفكير النمطي المعلب، ومصادرة حق الاختلاف، وتكميم الأفواه وخنق الحناجر الصادحة الصادعة، وتهميش الكفاءات وتقديم المتملقين والإمعات

ذلك ما حرم الخلق من وهج الحق،وسطوع الحجة، وبيان المنابر وفسح المجال للتنصير والتشيع، والعلمانية العوراء، والدروشة المخدرة في حين يظل الفقيه المتمكن،مَسحول الكرامة، مسحوب الصوت.

يا هذا: إن ما يجري وجع من أوجاع العصر،وألم في صدور الأحرار،وفساد فوق باع المصلحين –كما قال شوقي.

والأدهى فما يجري، أن يدخل على الخط بعض الكتبة المدحورين بهجوم مُوَازٍ، وهجاء مُؤازر على الفقهاء والأئمة والخطباء، شحذوا له ألسنتهم وسلوا سكاكينهم في مهرجان الذبح القائمة لهذه الفئة المَهِيضة الجناح

لست أدري هل ما يحصل لأهل الذكر هو تجسيد لمعاناة أهل الله الموعودين بالبلاء، والمَنْذورين لمثل هذا الابتلاء «أشدكم بلاء الأنبياء الخ» أم إن أولئك يعيدون العداوة القديمة القائمة بن الفقيه والسفيه جَذَعةً.

ورحم الله الشافعي حين قال: ومنزلة الفقيه من السفيه. كمنزلة السفيه من الفقيه

أم إن هذا تجليات الباطل والظلم إذا انتفش وانتعش «وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون»