درسنا مادة التاريخ الأدبي أو تاريخ الأدب في المراحل الثانوية الأزهرية، بتوسع محمود، ولقد أدركت أهمية هذه المادة باكرا وكان من فرط حبي لها أن جمعت كتبها الأربع في مجلد واحد، مازال في مكتبتي إلى اليوم بعد هذا العمر الطويل.

لقد استفدت من هذه المادة كثيرا في التاريخ والنقد والتحليل وهو ما دعاني أن أتحث اليوم عن أمر مريب.

منذ أيام تحدثت في مقال تحت عنوان (كلا لم يتب) وكنت أعني به الشاعر المرموق المعروف، الحسن بن هانئ والملقب بأبي نواس، والذي كان مع جودة شعره وبراعة نظمه، آية من آيات المجون إن كان للمجون آيات، ولكن بعض الناس ممن لا دراية لهم بهذه المادة الكبيرة، أخذوا يعترضون علي بأقاويل غريبة ومفاهيم مستعجمة فيقول لي بعضهم:

أمره عند ربه

الله وحده من يحاسبه

مالنا وحاله مع الله..

إلى آخر هذه المقولات المدهشة التي تثير العجب وتجعل المرء يضرب كف الحيرة على كف الفزع.

بل إن بعضهم اتصل بي وحاول أن يفهمني أن ما كتبته أمر تافه فماذا يفيد أن الحسن تاب أم لم يتب، مالنا ولهذا الأمر الذي لا يفيد بشيء.

بل إن ثالثا استنكر علي ردودي على الأصدقاء بأن ذلك المقال يتبع علم التاريخ الأدبي، واعتبرها جملة مستهجنة وجدال مذموم، ومحاولة للهروب من نقد الجمهور، ولما حاولت تفهيمه، ظنني أجدل بباطل وطالبني بالكف.

ومن المحزن أن بين المعترضين كتاب وطلاب أدب، وهو ما دفعني للسؤال بحيرة:

كيف يسلكون تيار الأدب وهم جاهلون بهذه المادة المهمة في صنع الأديب والناقد؟ هذا لا يجوز. 

إن مادة التاريخ الأدبي يا صديقي، وحتى تكون منها على علم وفهم، تتناول حال الشعراء والأدباء والخطباء، وتدرس بيئاتهم وأحوالهم السياسية والاجتماعية التي تسهل على الدارس فهم طبيعة شعر كل عصر من هذه العصور، والتي تساعد الناقد أن يعي مقاصد شعرهم، ولا يستغرب منهم بعض المعاني التي قد يستنكرها مع عصر مختلف.

ومادة التاريخ الأدبي حينما تدرس سيرة وحياة الشعراء والكتاب، فإنها لا تدرس سيرهم فتروي ما طاب من نوادرهم ومآثرهم ونتف أخبارهم فقط،  بل إنها كما يقول الباحثون: ” تغمر الدارس لها بعلم منظم فيكون ملما بمدى ثقافة هؤلاء الأدباء والشعراء، وتطور حياتهم، وما تأتى لهم من اختبارات واتصالات وأذواق ومشاعر، وما تهيأ لهم من أمزجة ورثوها أو اكتسبوها”

ولقد ضرب لنا مثل بالمجتمع الجاهلي  الذي نشأ أدبه في صحراء وحياة بدوية، ولولا علمنا بأن الحياة في الصحراء حينما يقبل عليها الربيع، فتكتسي الأرض خضرة ترعاها الماشية فتدر ألبانها وتسمن لحومها، ولولا علمنا كذلك بأن المجتمع البدوي تتعارك فيه القبائل ويكثر بينها الغزو والإغارة فيعز المن والاستقرار، لما استطعنا أن ندرك ما قاله النابغة في الثناء على الملك النعمان حينما مدحه قائلا:

فإن يهلك أبو قابوس يهلك ** ربيع الناس والبلد الحرام

لقد أنزل النعمان الممدوح منزلة الربيع، لأنه في الربيع كل الخير للناس، وأنزله كذلك منزلة البلد الحرام لأن فيه الأمن من السلب والنهب وسفك الدماء.

وهكذا أثمرت دراسة البيئة والتاريخ والمجتمع وطبيعة العصر فهما دقيقا لقول الشاعر، تستطيع معه أن تفهم بدقة تشبيهاته واستعاراته وألفاظه ومراميه.