ماذا بك لو أخبرتك ابنتك أنها ستتزوج رجلا ممن يعيشون في أحراش إفريقيا ويهيمون في أدغالها، حيث لا حضارة ولا مدنية ولا رقي ولا حياة توائم متطلبات الإنسان العصري؟

لا شك أنك ستعد ابنتك إن قبلت ذلك مجنونة محلولة أصابها وابل من الخرف أذهب عقلها ولم تعد متزنة التفكير.

وقبل أن أقول: لك الحق في ذلك..أحب أن أدهشك أن هذا الحال هو نفس نظرة الأوروبيين لنا نحن في مصر.. ومنذ عقود مضت، فهم يعتبرون بلادنا وشعوبنا كتلك الأدغال التي يعيش فيها خصوم الحضارة والمدنية في إفريقيا! ولو أن فتاة منهم عزمت أن تعيش في بلادنا أو تتزوج وتقيم فيها وتترك جنسيتها من أجل أن تكون منا.. فقد أصابها مس من الشيطان، أو أنها فدائية متطوعة شأنها شأن الرهبان الذين رحلوا لإفريقيا من أجل التبشير.

كان هناك في زمن مضى وعقود مرت طالب مصري في بعثة علمية إلى أوروبا، وكان يحضر رسالته للدكتوراه ما بين فرنسا وسويسرا، وقد رجع هذا الدارس فيما بعد إلى بلده وصار من كبار المفكرين والمؤرخين، وسأخبرك عن اسمه في النهاية، ولكن لا تدع شغفك باسمه يضيع علينا أو نتجاهل بسببه هذه النظرة المنكرة إلينا من قبل الغربيين، لقد أوشك أن ينتهي من دراسة الدكتوراه، وقبل أن يرجع إلى بلده وينتهي من دراسته بقليل، تعرف على فتاة سويسرية تدرس الموسيقى في جامعة زيوريخ، وأحبها من أول لحظة، ولما حان موعد الرجوع إلى مصر قرر أن يتزوجها، رحبت الفتاة وطلب مقابلة أهلها، وصدم برفضهم له، وحجتهم كيف تتزوج ابنتهم السويسرية من مصري؟ إن ما يفرق بين سويسرا ومصر ليس فقط مسافة البعد، بل هناك مسافة ثقافية وفكرية وتاريخية.

ولكن بعد بضع مقابلات أعجبوا بشخصيته وكلامه، وزالت من نفوسهم بعض هذه النزعة العنصرية، ولكنهم ظلوا خائفين على ابنتهم ومصيرها مع الرجل المصري، وبعد أخذ ورد تم الزواج، وأرادت هذه الزوجة أن تنال الجنسية المصرية، ولما تقدمت بالأوراق للسلطات السويسرية التي تثبت تغيير جنسيتها، لم يصدقوا ما يحدث وسألوها: هل أنت مدركة لما تفعلين؟ فقال لهم : نعم، فقالوا مرة أخرى :هل تتركين فعلا جنسيتك السويسرية؟ وهل تعلمين فعلا أين أنت ذاهبة؟ قال نعم.

لاحظ هنا وتأمل بدقة ردة فعل السلطات السويسرية والتي لا تحتاج إلى تعليق.

ولما تم الزواج واستقرت في بيت زوجها وهي إطلالة لابد من ذكرها حتى تكتمل الصورة الغربية التي أتحدث عنها عن بلادنا وشعوبنا، أقول لك: لما استقرت في بيت الزوجية، كانت تخشى أكل اللحوم فقد كانت تعتقد وتصدق ما قيل لها: إنهم يأكلون الفئران، فعندما كانت ترى في طبقها قطعا من اللحم، تتصور أنها أجزاء من فئران فلا تستطيع أن تأكلها، غير أنها أدركت بعد فترة قصيرة خطأ ذلك التصور واعتادت أن تأكل مما يقدم لها وهي مطمئنة.

وها أنا قد وضعت أمامك رؤية لغربيين عن شعوبنا وإنساننا وطبيعتنا ورؤيتهم لنا، إلى الحد الذي تصوروا فيه فتاتهم تقدم على خطأ فادح وجريمة في حق نفسها.

وكم أصابتني الدهشة من نظرة هؤلاء الناس لنا، مما دعاني أن أقول : أإلى هذا الحد من الهوان قد بلغنا في أعين الناس؟

وإلى هذا القدر المخيف من الدونية والاستحقار، تكون صورتنا في معتقد الأمم التي تعلونا حضاريا؟

إن القوم يتعجبون من أمر الفتاة وكأنها تقدم على الانتحار، وتتخلى عن الحياه الحقيقية.. وكأنها تخبرهم أنها تفضل الموت على الحياة.

ترى ماذا يكون حالنا لو اعتززنا بإيماننا وديننا وإسلامنا الذي أعلى من شأن الإنسان وكرمه، ولقد قيلت كل هذه السخائم، وجرت كل هذه التصورات المفجعات، حينما جعلنا بيننا وبين الإسلام حجابًا سميكًا، لقد قادتنا العلمانية إلى احتقار الغرب لنا ولا رفعة لنا إلا تقديرنا لهويتنا.

بقي أن أخبرك أن هذا العالم هو المؤرخ الكبير دكتور حسين مؤنس رحمه الله