خباب مروان الحمد

يتعلّم المريضُ في مرضه وأوجاعه، عدّة دروس من أبرز ما خطر لي منها:

1-)

أنّ المريض ضعيف مفتقر إلى ربه، وأن الطبيب سببٌ، وأنّ الشافي الله، وأنَّ الأوجاع مؤلمة، وأنّ الإنسان تتفاوت قدرته في تحمل الآلام والأوجاع، وأن الصبر عليها كفّارة وحطيطة للخطايا.

2-)

أنَّ بعض الأطباء في قلوبهم رحمة ومراعاة لحقوق المسلم على أخيه المسلم، ومراعاة للحق الإنساني العام، وأنّ بعضهم رأسماليون ليس لهم هدف إلا قص المبالغ من جيوب المرضى!

3-)

أنَّ المرض فرصة للتوبة، ومراجعة الذات، ومحاسبة النفس، وأنّه فرصة لتصفية القلب، واعتبار الدنيا دنية لا تستحق التمسك واللهث خلفها،

وإنّ من أكثر ما يُغيّر نظرة المرء للحياة: مرضٌ، أو سجنٌ، أو فقد عزيز، أو غُربة إجبارية!

4-)

أنَّ بعض المرضى يعاني من قلّة المرافقين والزوّار؛ ترى فئة منهم يجلسون على أسّرة المستشفى شهور عدداً،

يقضي أحدهم وقته ما بين بكاء ونواح على مستقبل كان يحلم به ولم يدرك منه إلا مستقبل المرض؛

فكيف إذا كانت له زوجة سيئة الخلق، وأولاد عاقون!

لعمر الله سمعت بعض المرضى يدعون على أولادهم أن يجازيهم الله وأن ينتقم منهم؛ لأنهم لم يهتموا بهم في مرضهم.

5-)

أنَّ الطبيب يمكن أن يصف العلاج للمرض بعد دقّة تشخيصٍ،

وقد يأمرُ الطبيب المريض على الصبر والتحمل للمرء؛

لكنَّ الطبيب لن يعرف حقيقة الأوجاع كما يعاني منها المريض؛ فالواجب إذن على الطبيب؛

وخاصّة أنّه في حال صحّته إفراغ جهده في الصبر وتحمل المرضى، ومن كانت روحه سريعة الغضب قليلة الصبر؛

فخير له أن يترك تخصص الطب ويدرس في مجال الهندسة أو غيرها من التعليم الأكاديمي؛ فللطب رجاله، وللصبر رجاله.

6-)

أنَّ المرض حين يكونُ مزمناً ويطول عهده بالعبد؛ فليس للمريض إلا أن يتعايش معه، ويصبر على ما يناله بسببه، ويحتسب أجره عند الله،

ويُحاول أن يكتم أحزانه وآلامه؛ فأغلب الناس تنسى المريض بعدما تراه، وما كان ربك نسياً؛ فالشكوى لله عزة، والشكوى للناس مذلة.

7-)

أن تجارب المرض المتكررة والمستمرة؛ تعطي للعبد قدرة على فهم الحياة بشكل أكثر، وأنّ الحياة لم ولن تكون محطة سعادة عامة،

بل هي دار عناء وشقاء وبلاء، ولو كانت الحياة دار السعادة؛ لما كانت الجنة تنتظر عشّاقها، وتطلب أهلها جزاء صبرهم وتسعد بلقياهم بالسلام.

😎

أنَّ المرض ما لم يقرّب العبد من الله، فإنّه همٌ ووبال على صاحبه؛ فيا خسارة من ألحد وأعرض عن ذكر ربه،

ويا شقاء من اعترض على ربه وشكّك في قدرته، وضعف يقينه، وقلّ أمله.

9-)

أنَّ كلمة الفأل الحسن في المرض من المريض نفسه تفعل مفعولها فيه أكثر مما يفعله مفعول الدواء فيه؛

ولا زلت على قناعة تامة أنّ الحالة النفسية قد تزيد الجسم مرضاً وبؤساً إن كانت متردية،

وأنّ النفسية المتأملّة للخير وإن كانت مريضة الجسد لكنها تحاكي نفسها بالبشريات؛

فلن يخيّب الله ظنّها به؛ بل ستعقد مع مرضها على أقل تقدير حالة مصالحة ذاتية حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

10-)

أنّه يحسن بالمريض أن يكتم آلامه عمّن يحبّه ويَجِدُ عليه قدر الإمكان؛

وخاصّة أمّه ومن ينوبه من أعز أصحابه؛ فإنّ هذا سيفعل في قلوبهم حزناً عميقاً،

ولهذا حين مرض أحد الصالحين كان يتألم، وحين زارته أمه قام ولبس وتأنق كأن لم يكن به بأس،

فلما خرجت سقط من شدّة مرضه، فسئل عن ذلك فقال: «أنين الأبناء يعذب قلوب الأمهات»،

وما كل النفوس تقوى على ذلك، لكن محاولة التجلد تعطي شرف النفس ورحمتها بمن حولها؛

فكما أنّ المريض يجب أن يرحم فالمريض عليه أن يحاول أن يرحم من حوله.

ولا زلت أتذكر والدي رحمة الله عليه حين كان يتصبّر ويعاني من آلامه الشديدة،

ويضحك رغم الألم، وحين نفارقه ونغادره، أراه في غرفته تصب دموعه من شدّة ألمه؛ فيا رب صبّ الرضوان على قبره صبّاً صبّاً، واجعله في عليين.. اللهم آمين.

11-)

أن عزيز النفس لا ينكسر أمام الظالمين، ولا يحب التزلّف لغيره أثناء مرضه ليرحموه،

وقد قرأت في سيرة سيدنا الإمام أحمد أنّه لما مرض الإمام أحمد مرض موته جاء حاجب ابن طاهر فقال:

إنّ الأمير يقرئك السلام وهو يشتهي أن يراك فقال: هذا مما أكره، وأمير المؤمنين (المتوكل) قد أعفاني مما أكره.

12-)

أن بعض الزائرين للمرضى يكاد المريض يبغض جلستهم، وهو يجدهم يتحدثون أمامه من وفيات وكروب وأحوال صعبة تجري في العالَم،

وكأنَّ المريض في وضعٍ مناسب أن يتحدث أمامه بمثل ذلك،

وقد يتحدث بعض الزائرين عن مرضٍ أصيب به آخرون والوعثاء والكرب الذي عانوا منه؛

فهؤلاء الزوّار ثقلاء غثيثون أعيذ نفسي وأعيذكم منهم، ولو أنّ الأرض ابتلعتهم لكان أهون وأفضل،

فكيف إن أطالوا الجلوس ورووا الحكايات تلو الحكايات؟!

يذكِّرني ذلك بالإمام الأعمش، فإنّه حين مرض عاده رجلٌ فأطال عنده، ثم قال له: يا أبا محمد، ما أشد ما مر بك في عِلتكَ هذه؟ قال: قعودك عندي!

وما أجمل كلمة زائر يتحدث بحديث إيماني أمام المريض يزيد من إيمانه ويشجعه على فعل الخيرات،

ومن لطيف الأقوال ما قاله الصحابي الجليل سلمان الفارسي لمريض:

«أبشر، فإن مرض المؤمن يجعله الله له كفارة ومستعتبا، وإن مرض الفاجر كالبعير؛ عقله أهله ثم أرسلوه فلا يدري لم عقِل ولم أرسل».

13-)

أن زيارة بعض الناس على المرضى مخفّفة مؤنسة، بل قد ينسى المريض مرضه

وقد حكي عن سعد زغلول حين مرض كانت الوفود تعوده مريضاً فيبدأ الحديث ثم يلقي الأغطية ويقف خطيباً منفعلا وينسى مرضه!

14-)

أن أكثر ما يرجوه المريض من أحبابه، أن يكثروا من الدعاء له بظهر الغيب، ويكونوا على صدقٍ واستحضار في دعواتهم؛

فإنّه يصله خيرٌ كثيرٌ من أدعيتهم ويجد بها في نفسه أنساً وتخفيفاً،

وقد تكون من أعظم أسباب الشفاء؛ فلن يعدم المريض من صالحين أتقياء بررة أخفياء يلهجون بدعوات الوفاء؛

والله تعالى ينزل فضله ولطفه ويستجيب، والداعي الحقيقي خفي، والله هو الذي يعلم به وحده!

من خباب مروان الحمد

باحث في مركز آيات