لم أحسِن يوماً مداعبة كرة القدم، ولم أستطع فتح قلبها، ولا ملامسة خدودها، ولم ألبِّ لها دعوة للمحاولة خوفاً من سخريتها بي وخداعها لأمثالي،

فهي تصدّني منذ الصغر، ولم تترك عندي رغبةً في تكرار محاولة التودد الأولى إليها،

فغالباً ما أكون فيها مالئاً لفراغ الفريق حين ينتهي فرز اللاعبين أو انتقاؤهم،

وإذا كنتُ في حساب اللاعبين المالئين لفراغٍ فأكون في الدفاع،

ثم تراني لا تقع عيناي على الكرة بل على الأقدام التي تتقاذفها،

ومَن نجا من تكسيري فقد بلغ المرمى أو يكاد.

الكرة.. والعلاقات العامة

ولمّا كانت الكرة مدخلاً في العلاقات العامة فَقَدْتُه بجهلي بها لعباً أو شغفاً،

فقد كان عليّ أن أفتح مسارات أخرى إلى قلوب الناس،

فبدأت أبحث عن مفاتيح الشخصية الإيجابية التي تدخلني إلى متاهات النفس الإنسانية وأمزجتها،

ولا شك أنني تهت مرات قبل أن أعرف بعض المناهج المُوصِلة،

وكان هذا مما أنضج تجربتي النفسية باكراً بخوض صراع النفوس دون أدوات قوة حاملة.

أنا اليوم راض عن نفسي وأحسب أنني في نسق منسجم مع عقلي،

فأنا بطبعي لا أحب التعصّب، ولا أنحاز إلى عاطفة مشتعلة لا تنفعل مع مزيج العقل والإيمان عندي،

فتراني باسماً أفرح لكل فرِحٍ بفريقه، وأُظهِر الأسف والعزاء لكل مَن خاب قلبُه في لحظات الخسارة.

وقد فهمتُ من حالي هذه أنني وسطٌ، ولا يعني هذا أنني كالحكم في المباراة، بل كالعابر الخالي الذهن الذي يتلقَّى ما يأتيه بحياد،

ولا يبني عليه موقفاً، لاسيما أنه لا يصحّ أن أكون حكماً في أمر أجهل قوانينه، ولا أستمتع بالفرجة عليه،

بل أراه يرهق الأعصاب، ويتلف العقل والقلب، ويوتّر البال،

ويطلق العنان لشيطان الغضب والكآبة وإدمان المشاهدة وتمكين الشعور بالعجز أو الفخر بما لا يعود بالنفع.

القسوة في قذف المحبوبة؟!

وقد كنتُ في دهري الأول لا أفهم كيف يجري الناس وراء تلك المدوّرة المطّاطية،

وكيف يضربون ما يحبون بكل تلك القسوة لقذف كرتهم المحبوبة في المرمى بعد أن كانوا يخادعونها بلطف مرونتهم.

بل كنتُ أتطرّف قديماً وأحتجّ لرفاقي بأنني لا أضع عقلي عند أخمص قدمي لأحاور تلك الرأس المدوّرة الجامدة الحمقاء،

التي انفصلت عن جسدها لتكون بين أقدام قاذفيها يوصلونها إلى حيث يشاؤون لا إلى حيث تشاء،

ثم ظهر لي في فلسفة متأخرة أن قيمتها عند العارفين بها يومَ تلتحم بصاحبها وتدور في فضائه

وتنجذب إليه وتبتعد في تناغم وتفاهم ومُصانعة، فتمنح هؤلاء الذهب والمال والشهرة والنفوذ كما تقطع الطريق على آخرين.

ربما لم أشاهد في حياتي مباراة كاملة، وربما لا يحفّزني شيء إليها،

لكنني أعلم أن منافسات بعض المعلّقين عليها في حماستهم المتوقدة،

وفي كتابات المحللين والصحفيين المحترفين قد أحيت فنون البلاغة العربية وأساليبها، وقدّمتها لعامة الناس،

وربما يكون لها فوائد أخرى ألمحُها ولا أحقّق المقالة فيها مثل أن تكون فرصة لتوعية الناس في حشودهم الكبيرة،

أو تعبير الناس بلطافة عن مواقف تجمعهم وتعبّر عنهم على خلاف ما يقوم عليه أمر حكوماتهم.

من د. أسامة الأشقر

مؤرخ وروائي فلسطيني