أحمد الشريف، كاتب وباحث

«لا يستطيع عاقل أن يقول: إن يوم النصرانية في أوربا وأمريكا طيب.. فالإلحاد شائع، والزنا والربا أشيع، والركض في أودية الحياة ابتغاء المتاع العاجل هو السمة الظاهرة، وبدع الشباب المادية والأدبية لا حصر لها. ولولا الحياء لغلّقت تسعة أعشار الكنائس أبوابها من الفراغ!.

أما في ربوع العالم الإسلامي كله، والأقطار العربية خاصة، فالحال على العكس: النصرانية تنتعش والكنائس تكثر، والأموال الدافقة تجيء من منابع شتى لتدعم الطوائف المسيحية وترجح كفتها في ميادين العلم والإنتاج.

وأوربا وأمريكا من وراء هذا العون الواسع تخدمان به آمالها العريضة في القضاء على الإسلام، وإعادته إلى الصحراء من حيث جاء..

النتائج إلى الآن لا تَسُرّ

وأنا من ربع قرن ألاحق الهجوم الثقافي والسياسي على أمتنا وديننا.. والطلائع المؤمنة في كل مكان تشتبك معه وتحاول صده،

غير أن النتائج إلى الآن لا تَسُرّ، لقد سقطت جماهير كبيرة من الدهماء، وأعداد وفيرة من المتعلمين في براثن هذا الغزو المزدوج،

وتاحت الفرص أمام الطوائف غير المسلمة، فأطلت برأسها تريد أن تشارك في الإجهاز على الفريسة!..

 ولا ريب في أن قوى خارجية تكمن وراء هذا النشاط وتغذيه»!.[١]..

هذا نص كلام الشيخ الجليل محمد الغزالي -رحمه الله- الذي كتبه في شهر رمضان سنة ١٣٩٣هـ/أكتوبر ١٩٧٣م،

وتم نشره في كتابه «قذائف الحق» وهو الكتاب الوحيد من كتب الشيخ الغزالي الذي تم مصادرته وحظر نشره داخل مصر،

وكان السبب الرئيس وراء ذلك هو تَضمُّنه لتعليمات البابا شنودة التي قالها لخاصة رجاله عقب توليه رئاسة الكنيسة سنة ١٩٧٠م،

ومن ضمنها: «يجب علينا مضاعفة الجهود التبشيرية الحالية إذ أن الخطة التبشيرية التي وضعت بُنيت على أساس هدف اتُّفق عليه للمرحلة القادمة،

وهو زحزحة أكبر عدد من المسلمين عن دينهم والتمسك به، على ألا يكون من الضروري اعتناقهم المسيحية،

 فإن الهدف هو زعزعة الدين في نفوسهم، وتشكيك الجموع الغفيرة منهم في كتابهم و صدق نبيّهم محمد!.

وإذا أفلحنا في تنفيذ هذا المخطط التبشيري في المرحلة المقبلة فإننا نكون قد نجحنا في إزاحة هذه الفئات من طريقنا، وإن لم تكن هذه الفئات مستقبلا معنا فلن تكون علينا»!.[٢]..

صدق بصيرة الشيخ محمد الغزالي

وقد تبين صدق بصيرة الشيخ محمد الغزالي عن طريق عدة قرائن فيما بعد،

أبرزها ما كان في العام ١٩٩٤م، عندما ظهرت الطبعة الأولى من كتاب «هل القرآن معصوم؟» الصادر عن مؤسسة «ضوء الحياة» التنصيرية ومقرها في دولة النمسا الأوروبية،

والذي يُعتبر أحد أهم وسائل التبشير في الثلاثين سنة الأخيرة، لكونه ثمرة جهود طويلة مشتركة لمجموعة من رجال الدين النصارى،

تفرّغوا للنظر في القرآن بهدف انتقادِه وبيان تناقضاته وأخطائه -حسب مزاعِمهم وتوهماتهم-

وقد جمعوا فيه مطاعن اليهود والنصارى من قبلهم وزادوا عليها حتى أحصوا ٢٤٣ خطأ على صورة أسئلة وشبهات ادعوا وجودها في القرآن الكريم من أجل إثبات أنه اختراع بشري وليس وحيا من عند الله سبحانه وتعالى!.

وقد قسموا شُبهاتهم وما افتروه على الله كذبا في الكتاب المكون من ٢٥٩ صفحة إلى عشرة أقسام:

تضمن أولها أسئلة جغرافية على غرار هل السموات سبع والأراضي سبع؟!.

وكيف تُرجم الشياطين بالنجوم؟!. وهل تغيب الشمس في بئر حمئة (عين ماء)؟!. وغيرها ..

وتلاها أسئلة تاريخية مثل هل لكل أمة رسول؟.، وهل همّ يوسف بالزنا؟،

وهل أشرك آدم وحواء بالله؟ وما هو أصل الكعبة؟. وغيرها..

ثم مطاعن أخلاقية حول إباحة الغنائم، وآيات الجهاد والقتال، والعفو عن اليمين اللغو؟!. وقسم الله بمخلوقاته؟!. إلخ..

وإشكالات لاهوتية حول عالم الجن، والتوحيد والتثليث والأقانيم، وماهية المسيح وقضية صلبه، وهل يشاء الله -تعالى- الكفر للناس؟!.. إلخ..

مطاعن لغوية مزعومة

كما تضمن فصلا عن مطاعن لغوية مزعومة كنصب الفاعل في آية، وجمع الضمير العائد على المثنى في آية ثانية، وجمع الكثرة بدل جمع القلة وتذكير خبر الاسم المؤنث في ثالثة؟!. وهكذا..

ثم تطرق الكتاب الخبيث إلى أسئلة من أجل الطعن في التشريع وصلاحيته للحكم والتقنين مثل:

لماذا العقاب بقطع يد السارق؟، وهل إباحة الطلاق خطأ؟!.،

 مع إثارة الشبهات حول شهادة المرأة وضربها وميراثها، وإباحة التسرّي بها، وحول انتشار الإسلام بالسيف،

وحكم قتل المرتد، والتجارة في موسم الحج، وتحويل القبلة، ووثنية شعائر الحج؟!. إلخ..

وأفرد قسمه السابع للمطاعن الاجتماعية في قضايا حجاب المرأة وأخذ الجزية من غير المسلم وتعدد الزوجات ودعوة القرآن لكراهية الآخر والنهي عن موالاة المختلفين في العقيدة (الكفار)!.. وغيرها..

وفي حين خُصص القسمان الثامن والتاسع من أجل إثارة شبهات علمية مثل رفع جبل الطور ومسخ اليهود قردة والتداوي بالعسل وحقيقة ناقة صالح وغيرها من معجزات الأنبياء؟!.. إلخ.

ومطاعن فنية عن المراد بالحروف المقطعة؟ وهل في القرآن كلام أعجمي؟!

وبين نفي الشفاعة وإثباتها في الآخرة، وهل اليهود والنصارى مؤمنون، وهل القرآن محكم أم متشابه؟!.

اقتصر الفصل العاشر والأخير على الطعن في رسول اللهﷺ والانتقاص منه بأسئلة مثل هل شرع الرسولﷺ في الانتحار؟!،

ولماذا النبيﷺ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!. وهل مات مسمومًا؟! ولماذا كل تلك الزوجات والحليلات في حياته؟!.. وغيرها..

القرآن ونقضُ مطاعِن الرُّهبان

وهي الشبهات والأباطيل التي تم تفنيدها ودحضها جميعًا في كتاب ضخم مكون من سبعمائة وخمسين صفحة تحت عنوان:

القرآن ونقضُ مطاعِن الرُّهبان من تأليف الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي

الذي تُوفي أول أمس (الجمعة ٢٥ جمادى الآخرة سنة ١٤٤٣هـ/ ٢٨ يناير٢٠٢٢م) في صمت لا يليق بمن كان له مثل جهاده الدعوي وإسهاماته العلمية،

والتي كان من ضمنها هذا الكتاب العظيم الفائدة الذي تصدى لكتابته في نهاية العام ٢٠٠٥م، بهدف تقديمه خالصا سائغا للمسلمين،

ليزدادوا يقينا بأن القرآن كلام الله، وأنه منزّه عن الأخطاء، وليقفوا على تهافت وتفاهة أسئلة واعتراضات الكفار عليه، وليعرفوا كيفية الرد عليها..

فقد يلتقي أحدهم مع المُنصّرين المشككين في القرآن، فيقدم له أسئلة مثلها،

والتي تسهل عليه الإجابة عليها بقراءة الردود في كتاب الدكتور صلاح الخالدي رحمه الله..[٣].

رثاء القرضاوي العلامة «الندوي»

فما أعظمها من نيّة وما أجلّه من عمل نذكره به يوم وفاته الذي لم أعلم به إلا منذ ساعات معدودة -وقد مرّ الخبر مرور الكرام في بضع صفحات متناثرة هنا وهناك-

فحضرتني مقولة الإمام الدكتور يوسف القرضاوي التي قالها في رثاء العلامة «الندوي» منذ حوالي ربع قرن:

«إن مَهَمّة العلماء في الأرض كمهمة النجوم في السماء، هي هداية للسائرين، وشُهب تنقض على الشياطين،

وخصوصًا الدعاة والعلماء الربانيين المتميزين منهم، الذين يَعْلَمون ويعملون ويُعلِّمون، فهم ورثة الأنبياء حقًّا، يدعون إلى الله على بصيرة، ويقودون الناس إلى الحق عن بيّنة»[٤]..

وهي مقولة عظيمة تليق بعظماء الآخرة الذين لا نزكيهم على الله ولكن نحسب ميراثهم الضخم في ميزان حسناتهم يوم القيامة،

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}،

وقد كان الدكتور «الخالدي» الذي ولد في مدينة جنين الفلسطينية في ١٨ محرم سنة ١٣٦٧هـ/١ ديسمبر ١٩٤٧م، أحد هؤلاء لا شك في ذلك،

فقد قام بعد تخرجه من كلية الشريعة بجامعة الأزهر سنة ١٩٧٠م، بالعمل على خدمة دين الله وكتابه المجيد،

من خلال إسهاماته البارزة في علم التفسير الذي تخصص فيه منذ بداية الثمانينات،

حيث كانت رسالته لنيل درجة الدكتوراة من جامعة محمد بن سعود في الرياض تحت عنوان:

«في ظلال القرآن: دراسة وتقويم»..

وقد اشتهر عن الدكتور صلاح الخالدي تعمقه في دراسة الإنتاج الفكري والدعوي للأستاذ الشهيد سيّد قطب (١٩٠٦ – ١٩٦٦م)،

ومن كتاباته المميزة بهذا الخصوص: «سيد قطب: الشهيد الحي»،

و«أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب»، و«سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد»،

و«سيد قطب: الأديب الناقد، والداعية المجاهد، والمفكر المفسِّر الرائد»..

وهى الدراسات العلمية القيمة التي أنصفت صاحب الظلال وردت عنه جحود الأبناء وكيد الأعداء!.

وكما كان للدكتور الخالدي باع كبير في علوم القرآن والتفسير حيث كتب:

«القصص القرآني.. عرض وقائع وتحليل أحداث»، و«التفسير الموضوعي بين النظرية والتطبيق»،

و«إعجاز القرآن البياني ودلائل مصدره الرباني» و«التفسير والتأويل في القرآن» وغيرها،

كان له أيضا إنتاج فكري غزير في إثراء الصحوة الإسلامية ودعم القضية الفلسطينية مثل: «الخلفاء الراشدون بين الاستخلاف والاستشهاد»، و«صور من جهاد الصحابة»،

و«ثوابت للمسلم المعاصر»، و«وعود القرآن بالتمكين للإسلام» و«إسرائيليات معاصرة»،

و«جذور الإرهاب اليهودي في أسفار العهد القديم»، و«الشخصية اليهودية من خلال القرآن: تاريخ وسمات ومصير»

وغيرها أكثر من أربعين كتابا ودراسة عميقة موضوعية.

ومن أقواله الماجدة في هذا الشأن:

«إن فلسطين هى القضية المركزية الأولى للمسلمين في هذا العصر، فاليهود الصهاينة كلهم أعداء، غاصبون محتلون لفلسطين، لا يمكن التفكير في مصالحتهم أو مهادنتهم..

ولا حق لهم في كيان على أصغر جزء من فلسطين، وفلسطين كلها أرض إسلامية، تهم المسلمين جميعا، فإنها ليست قضية إقليمية فلسطينية فقط، ولا عربية فقط.»!.[٥].

ولكل هذا فقد استوحيت من كلمة العلامة القرضاوي ومن إنصافه للشهيد سيد قطب فضلا عن نقضه لأراجيف الكُفّار، عنوان هذا المقال، الذي لا يستهدف إيفاء العالِم القدير حقه، ولكنه يقدم سطورا قليلة للتعريف ببعض ما قدم، لعلها تُشجع من قرأها على البحث والاستفادة بنتاج هذه القريحة الإسلامية الفذة..

هوامش المقال:  

[١] قذائف الحق، الشيخ محمد الغزالي، صـ٣٥، منشورات المكتبة العصرية/بيروت

[٢] قذائف الحق، مصدر سابق، صـ٦٢..

[٣] القرآن ونقض مطاعن الرهبان، الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، صـ٩، دار القلم دمشق، طبعة سنة ٢٠٠٧م.

[٤] في وداع الأعلام، يوسف القرضاوي، صـ٤٨٤، طبعة الدار الشامية تركيا، سنة ٢٠١٦م..

[٥] ثوابت للمسلم المعاصر، صلاح الخالدي، صـ٧٢، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية سنة ١٩٩١م.