السيد أبو داود

منذ سنوات طويلة، كنت أتناقش مع صديقي الأكاديمي والباحث المتميز المتدين تدينًا هادئًا بلمسة صوفية معتدلة، وكان موضوع النقاش عن الدار الآخرة والاستعداد لها، فأعربت عن خوفي الشديد ألا يقبل الله عملي وأن يردني خاسرًا.. وقلت إن هذا الخوف يلازمني.. فقال صديقي: هوّن على نفسك، سندخل الجنة إن شاء الله. قلت له: لم هذا التفاؤل؟ قال: نحن لا نفعل الحرام .. هل أدلك على من سيدخلون النار؟

لعل صديقي الكريم لا يعرف أن كلماته هذه مازالت تلازمني منذ أكثر من عشرين عامًا، فأنا أفكر فيها باستمرار.

طبعًا صديقي لم يجزم بدخول الجنة، ولكنه استثنى وقال: إن شاء الله، وحينما قال: هل أشير لك على من سيدخلون النار، كان يقصد أعمالهم وأن من يعمل ذلك فهو من أهل النار، إن لم يتب أو إن لم يتداركه الله برحمته. هو يقصد أننا سخرنا حياتنا للعمل الإسلامي البحثي الأكاديمي أو الإعلامي، بينما هناك من سخر حياته للمعصية والانغماس في الحرام والشهوات ومحاربة الله ورسوله. كان يقصد المقارنة للتخفيف عن شخصي ودفعي للتفاؤل.

ثم نظرت فوجدت أن المسلم ينبغي أن يعبد الله بالخوف والرجاء معًا، حسب حاله من الطاعة وحسب حال قلبه، فإذا كان الغالب عليه المعصية أو الأمن من مكر الله كان الخوف أفضل، وإن كان الغالب عليه اليأس والقنوط كان الرجاء أفضل، وإذا كان حاله هو الطاعة والاستقامة فإن الأفضل له اعتدال الخوف والرجاء معًا.. حينما وصلت لذلك أدركت أن تركيزي على الخوف ربما كان بسبب ما ارتكبته من المعاصي.

لكنني نظرت فوجدت أحاديث عديدة تدعم موقف صديقي، فهو لم يقل ما قال إلا من منطلق حسن ظنه بالله:

فوجدت الحديث الشريف: (إن حسن الظن بالله من حسن العبادة).. كما وجدت الحديث الآخر: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي) وفي رواية (فليظن عبدي بي ما يشاء).

ثم وجدت عبد الله بن مسعود يقول: «والذي لا إله غيرُه ما أُعطي عبدٌ مؤمن شيئًا خيرًا من حسن الظن بالله، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله الظن إلا أعطاه الله ظنَّه؛ ذلك بأنَّ الخيرَ في يده».

لكني توقفت عند هذا الأثر طويلاً: فقد قيل لأعرابي في البصرة: ﻫﻞ ﺗُﺤﺪّﺙ ﻧﻔﺴﻚ ﺑﺪﺧﻮﻝ ﺍﻟﺠﻨّﺔ؟ ﻗﺎﻝ: ﻭﺍﻟﻠّﻪ ﻣﺎ ﺷﻜﻜﺖ في ذلك ﻗﻂّ، وﺃﻧّﻲ ﺳﻮﻑ ﺃﺧﻄﻮ ﻓﻲ ﺭﻳﺎﺿﻬﺎ، ﻭﺃﺷﺮﺏ ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺿﻬﺎ ﻭﺃﺳﺘﻈﻞّ ﺑﺄﺷﺠﺎﺭﻫﺎ، ﻭﺁﻛﻞ ﻣﻦ ﺛﻤﺎﺭﻫﺎ، ﻭﺃﺗﻔﻴّﺄ ﺑﻈﻼﻟﻬﺎ، ﻭﺃرتشف ﻣﻦ ﻗﻼﻟﻬﺎ، ﻭﺃعيش ﻓﻲ ﻏﺮﻓﻬﺎ ﻭﻗﺼﻮﺭﻫﺎ. ﻗﻴﻞ ﻟﻪ: ﺃﻓﺒﺤﺴﻨﺔٍ ﻗﺪّمتها، ﺃﻡ ﺑﺼﺎﻟﺤﺔٍ ﺃﺳﻠﻔﺘﻬﺎ؟ ﻗﺎﻝ: ﻭﺃﻱّ ﺣﺴﻨﺔٍ ﺃﻋﻠﻰ ﺷﺮﻓًا ﻭﺃﻋﻈﻢ أجرًا ﻣﻦ ﺇﻳﻤﺎﻧﻲ ﺑﺎﻟﻠّﻪ، ﻭﺟﺤﻮﺩﻱ ﻟﻜﻞّ ﻣﻌﺒﻮﺩٍ ﺳﻮﻯ ﺍﻟﻠﻪ؟ ﻗﻴﻞ ﻟﻪ: ﺃﻓﻼ ﺗﺨﺸﻰ ﺍﻟﺬّﻧﻮﺏ؟ ﻗﺎﻝ: ﺧﻠﻖ ﺍﻟﻠّﻪ ﺍﻟﻤﻐﻔﺮﺓ ﻟﻠﺬﻧﻮﺏ، ﻭﺍﻟﺮﺣﻤﺔ ﻟﻠﺨﻄﺄ، ﻭﺍﻟﻌﻔﻮ ﻟﻠﺠﺮﻡ، ﻭﻫﻮ ﺃﻛﺮﻡ ﻣﻦ ﺃﻥ ﻳﻌﺬّﺏ ﻣﺤﺒّﻴﻪ ﻓﻲ ﻧﺎﺭ ﺟﻬﻨّﻢ.

ﻓﻜﺎﻥ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻓﻲ ﻣﺴﺠﺪ ﺍﻟﺒﺼﺮﺓ ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: ﻟﻘﺪ ﺣﺴﻦ ﻇﻦّ ﺍﻷﻋﺮﺍﺑﻲّ ﺑﺮﺑّﻪ، ﻭﻛﺎﻧﻮﺍ ﻻ ﻳﺬﻛﺮﻭﻥ ﺣﺪﻳﺜﻪ ﺇﻻ ﺍﻧﺠﻠﺖ ﻏﻤﺎﻣﺔ ﺍﻟﻴﺄﺱ ﻋﻨﻬﻢ، ﻭﻏﻠﺐ ﺳﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﺮﺟﺎﺀ ﻋﻠﻴﻬﻢ.

ولعل هذا الأعرابي قد صفت نفسه وصح قلبه فوقف على دقائق قول الله تعالى: [فَمَا ظَنّكُم بِرَبّ العَالمِين].

ثم وقفت على قول ابن تيمية: «كثير من أهل الشهوات فيهم من المحبة لله ورسوله ما لا يوجد في كثير من النساك».

عندئذ أدركت صحة موقف صديقي العزيز المتفائل، وأدعو ربي أن يرزقني والمسلمين حسن الظن به وحسن الأمل والرجاء فيما عنده.. وأعوذ به سبحانه من اليأس والقنوط.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

من السيد أبو داود

كاتب صحفي، مصر