دعني أطرح عليك الآن سؤالا مهما وأدعوك للتفكر فيه:

هل رأيت يوما صوفيًا يمسك بكتب ابن القيم ويقرأ فيها ويلازمها ويغترف من فيض معينها وهداياتا، ويجعلها في تلك المكانة التي جعلها مثلا للكتاب الشهير إحياء علوم الدين، مع أن الأخير يضج بالأحاديث الضعيفة والواهية؟!

وأقصد بكتب ابن القيم تلك الكتب التي خص الحديث فيها عن التصوف والزهد وأعمال القلوب وعلاجات الروح والزهد والرياضة النفسية، وهي الكتب التي تتوافق مع نفس منهج الصوفية وتلتقي معهم في طريق واحد، وتضع بصمتها على الغاية التي ينشدونها؟!

هل رأيت صوفيًا يعنى بمثل هذه الكتب ويرى فيها قصده ومأربه ونشوته؟!

ربما يكون منهم من فعل ذلك ولكنهم قليل، وهم المعتدلون الذين تتسع صدورهم لقبول هذه الكتب التي كتبها عالم سلفي، وليس أي سلفي!! فهو تلميذ ابن تيمية، رحمه الله، الذي عرف بنكيره الشديد على الصوفية المنحرفة.

أشد أعداء الصوفية

لا شك أنه من المعلوم المشهود أن أشد أعداء الصوفية هم السلفيون المعنيون بالأثر وطلب الحديث والمقتفون لأثر السنة، هؤلاء هم أشد أعداء الصوفية وأعتى الناس نكرانا عليهم.

ومن ثم صارت هناك حساسية كبيرة من الصوفية، تجاه كل ما هو سلفي أو ينتسب إليهم أو يحسب عليهم، فلا تقبل أفكاره حتى ولو كانت تتوافق مع مناهجهم وطرقهم.

مدارج السالكين لـ ابن القيم

مدارج السالكين

انظر هنا لكتاب (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)

وهو الذي شرح فيه ابن القيم كتاب الإمام الهروي الصوفي المعروف، والذي يعد أعظم الشروح التي شرحت كتاب الهروي وأعدلها، ورغم هذا لا يقبل عليه الصوفية للحساسية الآنفة الذكر،

فمعنى أن يمسك صوفي بكتاب لابن القيم، فإن هذا يعني الإيغال في فكره ومنهجه السلفي المعتدل، الذي قد يؤثر على كثير من مريدي الصوفية ممن يرجو لهم من شيوخهم سبيل الغي والعوج.

لأن هذه الكتب ستقف بالصوفي على الجادة والتزام الكتاب والسنة، ورفض البدع والمنكرات والخرافات،

ولو حدث هذا لناطح الصوفي أهله، وتأثر بفكر الإمام تأثرًا يقبله على مذهبه، وينمي فيه روح التمرد عليه.

وتأتي الخطورة الأكبر في كتب ابن القيم على مريدي الصوفية، في أسلوبه الذي اعتمد فيه منهج اللين والرفق في رد البدع والمنكرات، فهو رحمه الله لم يكن كشيخه ابن تيمية الذي كان يرد بعنف ويهجم بقسوة تستفز الصوفية، وتحرضهم عليه.

انظر مثلا في شرحه لكتاب الهروي حيث قال في المقدمة ما أوحى بفرط الأدب والاحترام:

(مثلى ومثل الشيخ الهروي كمثل الهدهد مع سيدنا سليمان، حيث وقف الهدهد على باب سيده سليمان ذليلاً وهو يستدرك عليه بعض ما نسيه أو أخطأه قائلاً «أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ»، ويبقى الهدهد هو الهدهد وسيدنا سليمان هو النبي والملك العظيم).

ويعلق على هذا الشيخ محمد الغزالي قائلاً:

«فانظر إلى أدب العلماء مع بعضهم البعض».

كما علق غيره بقوله: «إن ابن القيم لم يتحدث بلغة التبذل أو الإهانة أو الشتم، أو حتى لغة الردح السائدة الآن في أوساطنا، فيقول مثلاً جهالات أو سخافات أو سقطات أو ترهات أو غباءات الهروي، أو بالخيانة والعمالة التي تعم مجتمعاتنا الآن.

هكذا كان ابن القيم الذي أريد اليوم أن أتحدث عن فكره، فهو أرق كثيرًا من شيخه ابن تيمية

الذي كان شديد المراس في المنافحة عن الرأي الذي يراه، وحادًا في صراعاته الفكرية مع الآخرين، وصارمًا في الشدة معهم».

قضايا الزهد والتصوف

لقد اهتم ابن القيم بقضايا الزهد والتصوف وعلاقة العبد بربه وطرق القرب إليه، ولم يدخل في صراعات فكرية مع أي مذهب،

ولو فعل فإنه يفعل ذلك بطريقة لينة رقيقة هادئة، ومن ثم لم يقم حوله هذا الغضب والاحتدام، الذي قام على شيخه ابن تيمية،

فكان مقبولا عند كثير من الطوائف والمذاهب وقما قيل عنه:

إنه قدم خلطة سحرية أرضت الصوفي والسلفي والعالم والعامي والقريب والبعيد، حينما جمع بين فقه السلف وزهد المتصوفة.!

تراث روحي وصوفي

والناظر فيما خلفه ابن القيم من تراث روحي وصوفي يتعجب من كثرته،

ويتعجب أكثر أن لا تنال هذه المؤلفات مكانها بين المتصوفة،

ويرى هذا الإعراض من باب التعصب المقيت، والتحيز غير المنصف، انظر لبعض هذه الأسماء

التي تقف بك على هذا العالم الصوفي الذي لا يعترف به كثير من غلاة الصوفية..

إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان

تحفة النازلين بجوار رب العالمين

الداء والدواء

حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح

روضة المحبين ونزهة المشتاقين

طريق الهجرتين وباب السعادتين

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين

قُرَّةُ عيونِ الْمُحِبِّين وروضةُ قلوبِ العارفين

مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة

وغيرها وغيْرها من المصنفات الصوفية الباهرة، التي كان يعتمد فيها ابن القيم كثيرا من أقوال الصوفية القدامى،

وأكثر الاستشهاد بأقوال الأوائل منهم، لتكون حجة على المتأخرين في طريقهم ممن خالفوا الشريعة.

وهو المنهج الذي أسير اليوم عليه في إيماني بروعة التصوف وجمال طريقه،

شريطة أن يخلوا من هؤلاء العبثيين الذين شوهوا مساره،

وانحرفوا به عن حقيقته وأصوله..

فلا يغضب قارئ متصوف، فأنا لا أذم صوفيته، ولكن ليس من حقه أن يمنعني أن أدافع عن التصوف الحق،

وأرد عنه خرف الأدعياء، وزيف المتمسحين بعتباته وهو منهم براء.