يصف الكتّاب دومًا حالة المخاض للأفكار والآراء: بأنها ألم وأنين، ثم يطلقون هذا الوصف العام على حركة الكتابة كلها، فيقولون: وجع الكتابة.

والحق أن الكتابة على قدر ما هي نشوة ومتعة، فإن فيها أبوابًا كثيرة من الوجع والألم.

نعم فيها وجع كبير.

انظر لمقال تكتبه يحمل فكرة معينة، يختلف معك فيها المختلفون، فترى فيهم من يخالفك بأدب، ثم ترى جاهلا يتعبك ولا يفهمك، ثم ترى ثالثا لا يجد إلا الهجوم والتطاول عليك مسفها مستهينا، مما يُحدث لك ضيقا في النفس.

وجع الكتابة، لا يأتي فقط من عناء الأفكار، وإنما من تعامل الآخرين مع هذه الأفكار..

وقد تختار لنفسك أن تكتب في هذا المسار الذي يحبه الناس،

ويستجلب عليك معاني الرضا من نفوسهم، لكن هناك لحظات تفرض عليك الأمانة، أن تكافح أمراض المجتمع، وتقف في وجه كثير من مشاهد الانحراف، فتنجرف رغما عنك إلى الخصومة التي يفرضها عليك الموقف أو الأمانة، أو الشعور بالواجب.

مصرع السفاح.. عبد الناصر في باكستان

بل يتسع وجع الكتابة لأعمق من هذا، حينما يحدث خطأ يجره مجرد حرف، فيولد مصائب على صاحبه وكاتبه.

مصرع السفاح.. عبد الناصر في باكستان

حدث أن خرج مانشيت صحيفة الأخبار أيام عبد الناصر، يبشر البلاد بهلاك السفاح الذي شغل الرأي العام،

وصادف هذه الحادثة زيارة عبد الناصر لباكستان، ولأهمية الخبرين فقد احتلا مانشيت الجريدة بالصحيفة فخرج كالتالي

مصرع السفاح في المانشيت الأول، وجاء الثاني: عبد الناصر في باكستان.!

فكأن عبد الناصر هو السفاح الذي لقي مصرعه في باكستان.

كان خطأ مر على أشاوس الصحافة وعتاة القلم، ولم يلتفتوا إلى ما تنبهت له الجماهير، ووقعت الصحيفة في حرج بالغ.

كان ذلك في العاشر من أبريل من عام 1960، لقد انقلبت الدنيا وتمت مصادرة العدد سريعا من الأسواق.

موحد الولايات الألمانية 

بينما عرف الأمير الألماني أوتو فون بسمارك، بأنه موحد الولايات الألمانية ومؤسس الإمبراطورية الكبرى هناك،

عكست إحدى الصحف الألمانية الآية تماما بسبب خطأ مطبعي بسيط، لكنه حمل صدى كبيرا عند المتابعين.

إذ أرادت الصحيفة أن تمتدح اهتمام بسمارك بالحفاظ على علاقات ألمانيا مع «القوى» المؤثرة، وهي الكلمة التي تكتب بالألمانية «Machten»،

لكن الصحيفة أخطأت بإضافة حرف «D»، لتصبح الكلمة «Madchen»،

التي تعني بالألمانية «فتاة مراهقة»، ليتحول المعنى إلى «أوتو فون بسمارك يسعى للحفاظ على العلاقات مع فتاة مراهقة»!

الرئيس المدمن يتضاءل بالبيض

كما أخطأت جريدة «الأخبار» في حق الرئيس الراحل عبد الناصر من قبل، فإن خلفه في الحكم محمد أنور السادات لم يسلم من تلك الأخطاء المطبعية أيضًا.

وذلك حين أرادت إحدى الصحف اللبنانية، الإشارة إلى تفاؤل الرئيس بإمكانية التطور اقتصاديًا عبر إنتاج البيض،

لكنها أخطأت وكتبت «الرئيس المدمن يتضاءل بالبيض»، بدلا من «الرئيس المؤمن يتفاءل بالبيض»!

ابن المقفع.. والمنصور

ثم هل تتخيل أن عبارة طائشة أضافها عبد الله بن المقفع إلى عهد الأمان بين الخليفة أبو جعفر المنصور،

وعمه عبدالله بن علي الذي كان واليه على الشام وتمرد عليه، قد كلفه حياته وهلاكه؟!

لقد خرج عبدالله بن علي على ابن أخيه الخليفة المنصور، فلما سير الخليفة الجيوش إليه وهزمه، فر عبدالله إلى إخوته،

الذين رفضوا تسليمه إلا إذا كتب الأمان له، فوافق وترك لهما كتابة ما يشاءان،

وعهد إلى ابن المقفع كتابة ذلك وقد كان كاتب أحدهما، فكتب هذا العهد على أحسن صيغة،

إلا أنه أضاف في نهايته عبارة أوغرت عليه صدر المنصور وغضبه،

إذ كتب فيها: إن الخليفة إذا نقض عهده وأخلف وعده، فإن نساءه وجواريه يصبحن محرمات عليه، وغلمانه وعبيده، يصبحون أحرارا لا سلطة له عليهم، كما يكون خارجا عن ملة الإسلام، وتستباح أمواله، وتسقط بيعته ويحق قتله،

قرأ المنصور ذلك، ورآه تطولا وخروجا عن الأدب في مخاطبة الملوك،

فسأل من كتبه؟ وعرفه، وأمر واليه على البصرة أن يؤدبه، لكن الوالي كان يكره ابن المقفع،

فقبض عليه وأشعل نارا، وراح جنوده يقطعون من جسده قطعة قطعة ويلقونها في النار،

وكانت نهايته الأليمة لمجرد سطور كتبها، لتعود عليه بهذا الوجع الكبير.

أبو يوسف يعقوب وابن رشد الفقيه

والإمام ابن رشد الفقيه والفيلسوف الكبير، تسببت بعض الكلمات في محنته،

لقد كان الفقهاء يحسدونه لمكانته من الخليفة أبو يوسف يعقوب بن يوسف المنصور بالله سلطان وثالث خلفاء الموحدين ببلاد المغرب،

ويرمونه بالخروج على أحكام الإسلام، وكانوا يوغرون صدر الخليفة عليه، حتى حوكم وعوقب بالنفي من قرطبة، وحرقت كتبه،

وأكد بعض المؤرخين أن السبب الحقيقي لموقف الخليفة منه، يرجع إلى كلمات، كانت الأولى منها أنه دوما ما كان ينادي الخليفة بقوله: يا أخي،

وقد عدها المنصور جرأة على مقام الملك، وكانت الكلمة الأخرى حينما ألف كتابه الحيوان، وذكر الظرافة وأشار بأنه راها عند ملك البربر،

وكانت هذه الكلمة قد اعتبرت عيبا في الذات الملكية، ولكن ابن رشد يدافع عن نفسه ويقول:

إن العبارة الصحيحة هي ملك البرين، وليس البربر، وإن ما وقع من تحريف إنما من الناسخ على غرار الأخطاء المطبعية،

التي تقلب المعاني في الصحف والمجلات والكتب،

وبعدما شفع له أحباءه كان عفو المنصور عنه بعدما قضى في النفي عامين كاملين،

واسترد حظوته عنده، لكنه لم ينعم بها كثيرا فقد مات بعد ما يقرب من عام. 

أرأيت كيف يكون وجع الكتابة؟!