د. أسامة الأشقر

إذا بلغ الخوف منتهاه، ووجد المرء فرصة للهرب، فيمكن أن نتخيّل أحدهم يضع آخر طرف ثوبه في أسنانه ويطير هرباً،

بلا وداع ولا سلام ولا تحية ولا التفاتة، حتى قالوا في المثل الشعبي عن مثل هذا المذعور: حطّ ديله في أسنانه، وقال: يا فكيك !

هذه الكلمة «فكيك» ربما كانت من الفكاكة التي يقترب معناها في العامية من الفهلوة الجبانة وادّعاء المعرفة والخبرة،

أو أن فيها استغاثة واستنجاداً بشخص نافذ يمتلك القدرة على تخليص المرء وإنجاده وتفكيك مشكلته.

وهي كلمات يمكن أن تعيش في جوّ الدلالة اللغوية العربية،

فنحن إذا أردنا استخدام نظام العربية لتحليل الكلمة فسنجد أن «فكيك» على زنة فَعِيل،

وهذه الصيغة إما أن تكون بمعنى اسم الفاعل (فاكّ) أو اسم المفعول (مفكوك) ،

ومادة الفكّ تدل على الفصل بين شيئين متشابكين والخلاص من حالة التداخل والاشتباك وفصل الارتباط؛ كما نجد لها معنى آخر وهو الحمق والغباء،

وأصل هذا المعنى يأتي من تفكك فلانٌ أي لم يتماسك من شدة الحمق، وهو معنى متطور عن تفكك الأشخاص والدواب إذا كبرت أعمارهم حتى تنفرج أفكاكهم عن بعضها ويعجزون عن الكلام والإشارة بوجوههم …

وربما كان نداء «فكيك» ليس استدعاء لشخص أو وصف، وإنما استدعاء لحال، فأهل المغرب إذا أرادوا وصف سرور الحال، وتمام المعيشة مقارنةً بآخرين:

«عايش  فوق فكيك» وفكيك واحة خضراء قديمة ذات عيون متفجرة يقع بعضها في الجزائر وبعضها الآخر في المغرب،

وهي غنية بتمور النخيل التي أبدع الناس في التعامل معها، وتفننوا في حفظ إنتاجها وتخزينه، حتى إنهم لم يتأثروا بتلك المجاعة الكبيرة التي ضربت المنطقة عام 1945م ،

وعاش أهلها على مخزونهم من التمور والخضار، بل إنهم ساهموا في تخفيف آثار المجاعة بتصدير بعض مخزونهم إلى من حولهم،

ولذلك استحقوا أن يخلدهم الناس في أمثالهم الشعبية، ويستدعوا تجربتهم في إنقاذ الناس، وحلّ عقدتهم، وفصلهم عن المجاعة والخوف، فقالوا:

يا فكيك،

أي أنقذنا وألهِمنا الخلاص يا ربّ فكيك، على تقدير حذف المضاف السائر في كلام العرب لكونه مفهوماً لديهم … 

لكنّ ورود هذه الجملة في شعارات الثورة المصرية في أواسط عهد أسرة محمد علي يوحي بأن لها أصلاً أقدم، فقد كان من هتافات المصريين: 

«لا أتراك ولا مماليك كله بكرة يقول يا فكيك»، وبهذا تترجّح الدلالة الأولى التي شرحناها في كلامنا الأول.

ومن الطرائف في هذا الباب أن الشيخ الشعراوي رحمه الله لمّا كان وزيراً للأوقاف

سأله الرئيس المصري محمد أنور السادات عن صحة ما يقال عنه إنه لا يجلس على كرسي مكتبه الوثير في الوزراة،

واتخذ لنفسه كرسيّاً من الخيزران قريباً من الباب، فأجاب بصحة ذلك، ولمّا سأله عن سبب ما فعله قال:

(حتى أكون قريباً من الباب، وعندما «ترفدني» أجري بسرعة، وآخد ديل توبي وأقول يا «فكيك»، وأحمد الله،

وأنفد بجلدي، فضحك السادات طويلا، واستلطف من الشيخ هذا الجواب.

«يا فكيك»

تلخّص اليوم أحوال جيوش قاتلة لم تجد بعد هزيمة حضورها سوى مشاهد الهروب الكبير،

وأخرى خسرت حضورها لأنها لم تتعلم فن البقاء…

من د. أسامة الأشقر

مؤرخ وروائي فلسطيني