د. حاكم المطيري

‏إذا كان التاريخ علم بوقائع الماضي وأحداثه على ما هي عليه حقيقة، وكما حدثت فعلا والغاية منه العبرة والعظة؛ إذ تتكرر الأحداث ويعيد التاريخ نفسه بوجود أسبابها، كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي في أهمية معرفة التاريخ :

‏اقرأوا التاريخ إذ فيه العبر

‏ضل قوم ليس يدرون الخبر

‏فإن التاريخ الفئوي شيء آخر تماما، فهو توهم لوقائع لم تحدث أصلا بنسج خيال لا حقيقة له، ليصبح تاريخا موازيا لا علاقة له بالتاريخ الحقيقي!

‏وهذا ما تجده من تصور شائع لدى الطوائف والجماعات والأحزاب والقبائل والشعوب والدول لتاريخها الخاص بها والذي قد يكون من نسج خيالها وصناعة رواتها لتحافظ به على وجودها المعنوي وذاكرتها الجمعية وتعزيز ولاء الأفراد لها باستذكار أحداث وأبطال ومفاخر لا وجود لها إلا في التاريخ الفئوي لهذه الفئات لا في التاريخ الحقيقي لمجتمعاتها وطمس كل حدث في تاريخها يعد سوءة من سوءاتها إما بالمكابرة بنفي حدوثه أصلا أو بروايته على نحو مختلف تماما يجعل منه بطولة وشرفا ومأثرة من مآثرها!

‏ويصل الحال بها في كثير من الأحيان إلى مناقضة حقائق التاريخ نفسه ليتحول الخائن للأمة والوضيع في التاريخ العام الحقيقي إلى بطل أو شريف في التاريخ الفئوي الموهوم، والعكس أيضا، فصلاح الدين الأيوبي البطل الفاتح المحرر للقدس في نظر الأمة الإسلامية ليس كذلك في نظر الفرق الباطنية، وفيصل بن الحسين الذي دخل بقواته بين يدي الجنرال البريطاني أدموند اللنبي قائد الحملة الصليبية المعاصرة ليحتل دمشق والقدس بطل قومي عروبي!

‏والأمثلة من التاريخ القديم والحديث أكثر من أن تحصى وانظر إلى كل من انحاز إلى العدو الخارجي للأمة من الأسر أو الجماعات أو الطوائف منذ ابن العلقمي في القرن الهجري السابع حتى انحياز بعض العرب والمسلمين للمحتل البريطاني الفرنسي سابقا ثم الأمريكي الروسي لاحقا وكيف تنظر كل فئة إلى هذا الانحياز؟ وكيف تبرره لزعمائها؟ وكيف تتعامى عنه حين يقترفه بعض قادتها أو فصائلها؟!

‏وقد نبه القرآن إلى شأن التاريخ وخطورة الافتراء فيه في قوله عما قصه من أخبار من سبق ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾

‏فلا عبرة ولا عظة بحديث مفترى.

‏وعاب القرآن على أهل الكتاب قولهم ﴿نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق﴾

‏فقد أعماهم التاريخ الفئوي الموهوم بأنهم أحباء الله وخاصته عن الاعتبار والاتعاظ بما يتكرر لهم من العذاب وما يقع عليهم من العقاب!

‏ولهذا يمتنع على هذه الجماعات والأحزاب والأسر والطوائف مهما حدث لها من كوارث أن تستفيد من أحداث الماضي بالعبرة والعظة، أو تنزع عما هي فيه من عماية؛ لأنها لا ماضي ولا تاريخ حقيقيا لها تعتبر منه وتتعظ بأحداثه، ولهذا تتكرر خيانتها للأمة، وتعاود خطيآتها دون شعورها بالخزي والإثم، أو بالعار والجرم، الذي يمنعها من عدم تكراره؛ لأنها أصلا لم تر ما وقع من أسلافها قديما خيانة وخطيئة يجب عليها تجنبها بل مأثرة تتحين الفرصة لتكرارها!

‏وهذا يفسر لم تتوارث بعض الأسر والجماعات والأحزاب والفئات في كل مجتمع وأمة من الأمم سلوكا مغايرا لمجتمعها وعامة أفرادها حتى كأنما هي في عماية عن رؤيته مع وضوحه لغيرها!

‏وحتى ربما رأيت العالم أو المفكر أو الكاتب أو المؤرخ الفئوي أو الحزبي أو الوطني من هذه الفئات وقد تطبع بطبائعها وتأثر خطاها وكرر خطأها واقترف خطيئتها وتفاخر بعارها دون أن يشعر بنظرة الآخرين إليه وإلى جماعته وحزبه وطائفته ودولته وهو يتحدث عن تاريخها أو يحلل مواقفها من خلال تاريخها الفئوي لا الحقيقي!

‏دون أن يدرك بأن التاريخ الحقيقي أكبر من أن يطوى أو يختزل، وأعصى من أن يزيف أو يفتعل، فما هو إلا أن ينشر صحائفه، ويصدر أحكامه، حتى يتوارى التاريخ الفئوي من حيث أتى!

‏ومن جهلت نفسه قدره

‏رأى غيره منه ما لا يرى!

د. حاكم المطيري

من د. حاكم المطيري

الأمين العام لمؤتمر الأمة ورئيس حزب الأمة، أستاذ التفسير والحديث - جامعة الكويت