في العاشر من سبتمبر 2022م، أدى الملك تشارلز الثالث ملك بريطانيا الجديد قسم العرش البريطاني.

وقد لفت نظري كما لفت نظر الكثيرين ما جاء في حلفه لليمين من تعهده بالمحافظة على الدين البروتستانتي، والحفاظ على كنيسة اسكتلندا ورعايتها.

وبهذا يكون الملك تشارلز الثالث قد نُصّب ملكاً رسمياً للمملكة المتحدة، وصار من ألقابه أيضاً «المدافع عن العقيدة» بحسب ما أُعلن رسمياً عقب تأديته لليمين.

وبالبحث تبين لي أن ذلك القسم ليس هو نهاية المطاف، بل إن هناك احتفالاً آخر سينظم بعد عدة أشهر لتتويجه.

أما مكان ذلك الاحتفال فهو كنيسة «ويستمنستر»، وسيرأس الاحتفال كبير أساقفة كانتربري ،وهو الشخصية الثانية في رئاسة الكنيسة الأنجليكانية، بعد الملك نفسه.

وفي ذلك الاحتفال يقوم رئيس الأساقفة بتقديم الملك الجديد للجمهور، ليؤدي الملك بعد ذلك يمين التتويج التي تتضمن أن يفعل كل ما هو ممكن من أجل الحفاظ على الكنيستين الأنجليكانية والبروتستانتية.

ثم يمسح أساقفة كانتربري بـالزيت المقدس، ويبارك الملك إدوارد الثالث ،ويتسلم الملك الإشارات الملكية، وأبرزها صولجانٌ، وتاجٌ يضعه كبير أساقفة كانتربري على رأسه.

والحقيقة أني حين قرأت ذلك تبادر إلى ذهني فوراً تحليلٌ لا أدري ما مدى صحته، كان قد كتبه الصحفي المصري أنيس منصور غداةَ مقتل الأميرة «ديانا سبنسر» في عام 1997،

حيث قُتلت في حادث سيرٍ ،هي وصديقها «دودي الفايد» ابن رجل الأعمال المصري «محمد الفايد»، وقد كانت ديانا في ذلك الوقت مُطلَّقةً من الأمير تشارلز (الملك الحالي) وله منها ولدان (أحدهما ولي العهد الحالي)،

وكان تحليل أنيس منصور أن المخابرات البريطانية هي التي دبَّرت قتلها ؛لأنها لن تسمح أبداً بأن يكون الجنين الذي تحمله اسمه: «محمد الفايد» أو «فاطمة الفايد»،وأن يكون أخاً لملك بريطانيا الذي هو رئيس الكنيسة.

وبغض النظر عن صحة هذا التحليل أو عدم صحته، فإنَّ المقصود الإشارة إلى أن دور الدين لا يزال حاضراً وبقوة في بلاد الغرب.

وقد شاهدنا كما شاهد غيرنا الرئيسَ الأمريكي جو بايدن يبدأ يوم تنصيبه رئيساً بالصلاة في كنيسة سانت ماثيوز، ثم يتجه لحلف اليمين ،وذلك تقليد درج عليه كل من سبقه من رؤساء أمريكا.

هذا ما يحدث في أوربا وأمريكا. وأما في بلاد المسلمين فإنَّ من يسمون أنفسهم بالنخبة يستكثرون على المسلمين إبداء أي مظهر ديني في مثل هذه المواقف.

ولك أن تقارن هذا الذي يحدث في أمريكا وبريطانيا بما حدث في مصر عند تنصيب المالك فاروق ملكاً على مصر عام 1937م، حيث اقترح البعض أن يُقام بهذه المناسبة احتفال في الجامع الأزهر، يحضره الأمراء وكبار رجال الدولة، وممثلو الهيئات السياسية، وكبار العلماء والشيوخ والقضاة، ويقف شيخ الأزهر (الشيخ المراغي وقتها) يدعو له، ثم يقدم له سيف جده محمد على.

ولكن النخبة السياسية وعلى رأسها حزب الوفد العلماني رفضت هذه الفكرة رفضاً تاماً.

وأصر مصطفى النحاس زعيم الوفد ورئيس الحكومة وقتها على منع ذلك الاحتفال ،بدعوى أن ذلك مخالف للدستور الذي ينص على أن يؤدى الملك اليمين الدستورية تحت قبة البرلمان،

وأن الأخذ بتلك الاقتراحات يتضمن إقحاماً للدين في ما ليس من شؤونه، وإيجاد سلطة دينية خاصة بجانب السلطة المدنية كما يذكر الدكتور عبد العظيم رمضان في كتابه: «الصراع بين الوفد والعرش».

وقد كان للنحاس ما أراد، وانتهى الأمر بموافقة فاروق على أداء القسم أمام البرلمان فقط، وأن يزور قبر محمد على دون أي مظهر ديني، كما جاء في كتاب: «الملك فاروق والخلافة الإسلامية» للدكتورة أمل فهمى.

والحقيقة أن من الأكاذيب التي روَّجتْ لها طوائف العلمانيين في بلادنا أُكذوبة أن الغرب قد طلَّق الأديان جملةً، وصار بين نُخبه الحاكمة وبين المسيحية عداء مستحكم، وأننا لكي نتقدم لا بد أن نقتفيَ أثرَهم ونحذوَ حَذوهَم.

وهذا غير صحيح كما يذكر الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه «من هنا نعلم» ويقول:

(فملك انجلترا يلقب رسمياً بحامي المسيحية، والبند الأول في برنامج حزب المحافظين إقامة حضارة مسيحية، والحزب الحاكم الآن في إيطاليا -أي وقتَ صدور ذلك الكتاب سنة 1950- الحزب الديمقراطي المسيحي.. ويوجد في دول أوربا كافةً ساسة يصدرون في أعمالهم عن روح مسيحية خالصة) [من هنا نعلم ص: 14].

والأحزاب المسيحية في دول أوربا لا تزال موجودة بقوة، وكثيراً ما تصل لسدة الحكم.

وعلى حدودنا الشرقية قامت بدعمٍ من الغرب دولةٌ تقوم على أساسٍ ديني توراتي.

وقد ظل الأسقف مكاريوس يحكم قبرص منذ عام 1955 وحتى عام 1977، وهو بلباسه الكنسي لم يغيره ، ولم يقل أحد إنَّ في هذا إقحاماً للدين في السياسة.

صحيح أن الكنيسة في أوربا قد تخلت عما كانت تمارسه في القرون الوسطى من سطوة وسيطرة على مقاليد الحكم، إلا أن التوجهات الدينية التي أشرنا إليها لا تزال موجودة وبقوة عند كثير من الساسة  وأولي الرأي فيهم.

أما في بلادنا فإن توجس القوم من كل مظهر إسلاميٍ قد فاق كل الحدود، حتى في الأمور التي لا علاقة لها بشؤون الحكم والسياسة ؛ فإني لأذكر أنه حين فاز الدكتور أحمد زويل بجائزة نوبل في عام 1999م أن مجلة «روزا ليوسف» أقامت الدنيا ولم تقعدها بسبب أن برامج الاحتفال به قد تضمنت زيارته لأحد المساجد الكبيرة بالقاهرة والصلاة به.

ولا ننسى ما كان يتعرض له حسن شحاته، حين كان مدرباً لمنتخب الكرة من النقد والتجريح لمجرد ترديده لعبارته الشهيرة: يا رب، حبيبي يا رسول الله.

 اللهم اهد قومنا فإنهم لا يعلمون.

من د. عبد الآخر حماد

عضو رابطة علماء المسلمين