قوم إذا استنبح الأضيافُ كلبَهُم .. مطارحةٌ أدبيةٌ حول الهجاء في الشعر العربي:

منذ أكثر من أربعين عاماً، وفي إحدى بلدان صعيد مصر جلس صديقان حميمان، يتجاذبان أطراف الحديث.

فسأل أحدهما الآخر: أتدري ما أفحش ما قيل من هجاءٍ في الشعر العربي؟ فأجابه صاحبه: أظنه قول الشاعر: 

قومٌ إذا استنبَحَ الأضيافُ كلبَهُمُ ** قالوا لأُمِّهُمُ: بُولي على النّارِ

قال الأول: ولكني أرى أن البيت الذي يليه أفحش منه وهو قوله:

فتُمسك البول بخلاً أن تجود به ** فلا تجود لهم إلا بمقدارِ

ثم دار بينهما حوار طويل حول هذين البيتين لا أذكر تفاصيله الآن.

كان أحد هذين الرجلين هو والدي رحمة الله عليه ومغفرته ورضوانه،

وكان الثاني واحداً من رواد التعليم الأوائل في بلدتنا وما جاورها، هو عمنا الشيخ حسنين أحمد حسنين،

وقد كان -رحمه الله وأجزل له المثوبة- ناظراً لمدرستي الابتدائية، وله فضل لا ينسى عليَّ وعلى كثير من أبناء جيلي في الغنايم، وما حولها.

كنتُ يومَ دار ذلك الحوار في مرحلة الدراسة الجامعية، وقد جلست أستمع مبهوراً إلى هذا الحوار الأدبي الشيق بين رجلين لا تزيد المؤهلات العلمية لأحدهما (والدي) عن شهادة الابتدائية الأزهرية القديمة، وأما الآخر فكان يحمل شهادة متوسطة أظنها كانت تسمى «الكفاءة».

ولم يزل ذلك الموقف مختزناً عندي في هامش الشعور، إلى أن أعاده إلى بؤرة الشعور مقال قرأتُه في بعض المواقع يعزو هذين البيتين للأخطل (غياث بن غوث التغلبي) وهو شاعر نصراني من شعراء العصر الأموي مات سنة 92 للهجرة .

ولما رجعت إلى ديوان الأخطل وجدت البيتين موجودين بالفعل في ديوانه (ص: 166) وأنهما من قصيدة يهجو بها الشاعرَ المشهور جريرَ بنَ عطية مطلعها :

ما زالَ فينا رِباطُ الخَيلِ مُعلِمَةً **وفي كُلَيبٍ رِباطُ الذُلِّ وَالعارِ

وكليبٌ هم قوم جرير.

وقد كانت هذه القصيدة من جملة ما يسميه مؤرخو الأدب العربي بشعر النقائض،

وهي القصائد التي كانت تمثل المعارك الشعرية التي  دارت رحاها بين جرير من جهة،

والفرزدق ومن معه من الشعراء من جهة أخرى، وقد كان الأخطل من جملة من انضم للفرزدق وشاركه في هجاء جرير.

وهذه وقفات موجزة حول هذين البيتين وما قيل بشأنهما:

– وأول ما نبدأ به أن نشير إلى أمر لا أظن أن أحداً يماري فيه،

 ألا وهو أن هذا الشعر يحوي من الانحطاط الأخلاقي والفحش في القول ما لا يقره شرع ولا دين،

بل لا يقره دين المسيح عليه السلام الذي ينتسب إليه ذلك الشاعر.

ولذا استحق هذان البيتان أن يكونا -كما قال عنهما كثير من النقاد -أفحشَ بيتين قيلا في الهجاء في الشعر العربي القديم .

– ولكن لا بد أن نسلِّم بأنه من ناحية التعبير الأدبي والتصوير الفني، قد حوى من صور البيان ما أوفى على الغاية في إثبات الغرض الذي أراده،

وهو نسبة جرير وقومه إلى الشح والبخل ولؤم الطبع:

1- فقد بلغ من بُخل القوم في نظر الشاعر

أنهم يهمون بإطفاء نارهم بمجرد سماع نباح كلبهم، الذي يدل على دُنوِّ بعض الأضياف من ديارهم.

ويظهر ذلك إذا علمنا أنه قد كان دليل الكرم عند العرب أن تبقى نارهم مشتعلةً عاليةً طول الليل ،يراها الرائي من بعيد، فيأوي إليها المسافر وابن السبيل الضارب في الصحراء.

وكان كرماؤهم يتبارون في ذلك ويتفاخرون به ، حتى كان حاتمٌ الطائي يقول مخاطباً غلاماً له:

أوقد فإنّ الليل ليلٌ قرُّ ** والريحُ يا غلامُ ريحٌ صِرُّ

عسى يرى نارَك من يمرُّ** إنْ جلبْتَ ضيفاً فأنت حُرُّ

2- ونلاحظ أن الأخطل عبَّر عن القوم القادمين بأنهم (أضياف)،

وهو عند الصرفيين جمع قِلّة ،ولم يستعمل جمعاً من جموع الكثرة كضيوف ،وضِيفان . وكأنه يقول إن هؤلاء القوم لشدة بخلهم لا يأتيهم إلا عدد قليل لا يؤبه به من الأضياف.

3- ثم إن هؤلاء القوم لشدَّةِ بخلِهِم،

لا يرغبون في إطفاء النار ببعض الماء ، وإنما يريدون إطفاء النار ببعض البول توفيراً للماء وشُحاً به .

4- والأدهى من ذلك

أنهم لا يطلبون من أحد رجالهم أن يقوم بمهمة البول على النار، بل يَكِلُون تلك المهمة إلى أمهم،

وفي ذلك ما فيه من امتهان كرامة الأم، وربما تعريضها لكشف عورتها.

5- ثم إن كونهم يطلبون منها أن تطفئَ النار ببولتها فيه دلالة على صغر حجم تلك النار، بحيث يكفي في إطفائها أن يبول عليها شخص واحد.

وقد كان العرب يتفاخرون بكثرة ما يوقدون من النيران ؛حتى إنهم يعتبرون كثرةَ الرماد دليلاً على شدة الجود والكرم.

ولذا قالت الخنساء في وصف أخيها صخر:

طويلُ النجادِ رفيعُ العمادِ ** كثيرُ الرمادِ إذا ما شتا

وفي حديث عائشةَ المعروف بحديث أم زرع عند البخاري (5189) ومسلم  (2448): (قالتِ التَّاسِعَةُ: زَوْجِي رَفِيعُ العِمَادِ، طَوِيلُ النِّجَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ) .

فقولهما: كثير الرماد، أو عظيم الرماد، كناية عن كثرة كرمه؛ لأنَّ إيقاد النيران الكثيرة ،يتولد عنه رماد كثير.

أما نار أولئك القوم فهي نار صغيرة، بلغ من صغرها أن يكفي بولُ امرأةٍ واحدةٍ لإطفائها.

6- ثم يأتي البيت الثاني بالطامة الكبرى الدالة على تأصل طبع البخل فيهم،

وهي كون أمهم لشدة بخلها تمسك بولها ،فلا تخرج لهم من البول إلا شيئاً قليلاً بقدر ما يُطفِئ تلك النار،

وتحتفظ بالقدر الباقي فلعلَّ قومها -إذا ذهب أولئك الأضياف- يوقدون ناراً أخرى، ثم يحتاجون لإطفائها إذا أحسوا بقدوم أضياف آخرين.

وأخيراً:

فقد عجِبتُ كثيراً من كون شاعرٍ نصراني يهجو -وهو في دار الإسلام -قوماً من العرب المسلمين بهذا الهجاء الفاحش، والكلام البذيء.

وبالبحث وجدتُ أن من أقوى ما شجع الأخطلَ على مثل هذا الفحش في القول أنه كان -بالتعبير المعاصر- (مسنوداً) من بعض حكام بني أمية،

وقد حصَّل منهم أموالاً جزيلة كما يذكر الإمام الذهبي في السير (4/ 589).

وإنما حصَّل منهم تلك الأموال لأنه كان لساناً لهم يهجو خصومهم ومناوئيهم، حتى إنه -قبَّحه الله- قد نظم شعراً في هجاء الأنصار رضوان الله عليهم قال فيه:

ذهبت قريشٌ بالسماحة والندى **واللؤم تحت عمائم الأنصار

فذروا المكارم لستمُ من أهلها ** وخذوا مساحيكم بني النجار

وكان ذلك الهجاء كما تذكر كتب التاريخ والأدب بطلب من يزيد بن معاوية قبل أن يليَ الخلافة. وجاء في تاريخ دمشق لابن عساكر (48/ 115)

أن وفداً من الأنصار على رأسهم النعمان بن بشير رضي الله عنه قد دخلوا على معاوية رضي الله عنه مطالبين بمعاقبة هذا الخبيث،

وقد حسروا عمائمهم عن رؤوسهم، وجعل النعمان يضرب صلعته براحته،

ويقول: «يا أمير المؤمنين هل ترى بها من لؤم؟». فوعدهم معاوية  بقطع لسان الأخطل.

ولكنَّ يزيدَ تشفع للأخطل عند أبيه، وأخبره أنه هو الذي طلب منه هجاءَ الأنصار، وأنه قد جعل له ذمَّتَه وذِمَّة أمير المؤمنين،

أي أعطاه الأمان، وما زال يزيد يتشفع للأخطل، حتى تركه معاوية ولم يتعرض له.

من د. عبد الآخر حماد

عضو رابطة علماء المسلمين