أمَـعَ الإسراء نادته السماءْ؟ ** كـدتُ أن أحـسِـبَه في الأنبياءْ

هذا مطلع قصيدة كانت مقررةً علينا في المرحلة الثانوية، وهي للشاعر المصري المعروف (على الأقل بالنسبة لجيلنا) صالح جودت (1912- 1976م).

والمقصود بمَنْ نادته السماء، الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي توفي في مثل هذا اليوم الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1970م.

وقد كان ذلك اليوم موافقاً للسابع والعشرين من شهر رجب عام 1390 هـ، وهو اليوم الذي اعتاد الناس في مصر أن يحتفلوا فيه بذكرى معجزة الإسراء والمعراج على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام.

ومن أجل ذلك قال ذلك الشاعر ما قال.

وفي هذه القصيدة من المبالغات والإطلاقات ما لا يمكن أن يُقِرَّه مسلمٌ فاهمٌ لدينه، فهو كما رأينا يربط بين وفاة عبد الناصر ومعجزة الإسراء والمعراج، ويرفع من مكانته فيقترب به من مصافِّ الأنبياء عليهم السلام، ثم نراه بعد ذلك يتخيل الطائرة التي حملت جثمان الرئيس بُراقاً كالذي أُسري برسول الله عليه، كما يُشبِّه موكبَ جنازته بموكب الإسراء بالرسول الكريم فيقول: 

علَـتْ  الطائـرةُ  الثـَّكلى بـه *** فتـخيلتُ  بُـراقاً فـي  الفضاء

كدتُ  أن أسمـع في مـوكـبه **نغَـمَ الأمـلاك  يعـلو  بالدعاء

كـدَت  أن ألـمـح في معراجه ** طـيـفَ  جبريل يحيى الشهداء

كدت أن  أشهـد فـي آفـاقـه ** مشـهـدَ الجـنة وعـدَ السعداء

كما نراه في تلك القصيدة أيضاً يُشبِّه عبدَ الناصر بالمسيح عليه السلام في رفعه للسماء:

وتمثلتُ  مسـيـحاً  صـاعـداً ** أفمـا كـان مـسيـحَ  الزعماء

ولا يكتفي بهذا، بل يُضفي  عليه بعضَ ما يعتقدُه النصارى في المسيح عليه السلام، من أنه الفادي الذي مات على الصليب،لكي يخلص البشر من خطيئة أبيهم آدم بحسب زعمهم فيقول: 

يحـمل الآلامَ عنـهـم ويـرى** أنـه الـفـادي  إذا عـزَّ الفداءْ

صـلَبـَتْـه  لـوعةٌ  دامـيـة   **   في خـيام اللاجـئين  التعسـاءْ

صالح جودت مولع بمديح الحكام

والحقيقة أن صالح جودت كان من الشعراء الذين أولعوا بمديح الحكام، وقد كانت له مدائح للملك فاروق، وبعض الملوك العرب كالملك عبد العزيز آل سعود، والملك حسين.

ولما قامت ثورة يوليو 1952 وذهب فاروق صار يمدح الثورة ورجالَها،

حتى إنه لما تنحى جمال عبد الناصر في أعقاب نكسة 1967 طلبتْ منه أم كلثوم أن يكتب لها قصيدة تغنيها بهذه المناسبة،

فكتب لها في بضع ساعات قصيدة حبيب الشعب والتي مطلعها:

قم واسمعها من أعماقي .. فأنا الشعب

ابْقَ فأنت السدُّ الواقي .. لمنى الشعب

ابْقَ فأنت الأمل الباقي .. لغد الشعب

ابق فأنت حبيب الشعب

هكذا قال صالح جودت في حياة عبد الناصر وغداة وفاته، ولكن لم تمضِ إلا سنواتٌ قلائل حتى رأيناه يشارك مع كثيرين غيره في الهجوم على عبد الناصر واتهامه بكل نقيصة؛ فهو الديكتاتور القامع للحريات، وهو المتسبب في هزيمة يونيو، وهو الذي أدخل الجيش في مغامرات لا طائل من ورائها كحرب اليمن ،وهو، وهو.

وقد ازدادت الحملة على عبد الناصر وعهده، بعد حرب أكتوبر 1973، حين شعر الرئيس السادات، بعظمة ما أنجزه.

وأن من حقه أن يختط لنفسه من السياسات ما يراه مناسباً ،ولو كان مغايراً لسياسة سلفه.

بل ظهرت في خطاباته لهجة النقد لكثيرٍ من سياسات عبد الناصر، بعد أن كان غداةَ وفاته  يقول:

إنه سيمشي على خط عبد الناصر، تلك المقولة التي راح المصريون بعد ذلك يتندرون عليها قائلين: إن السادات مشى على خط عبد الناصر بأستيكة (أي بممحاة) .

وحينئذ انقلبت الدفة وتغير اتجاه كثير من الكُتَّاب، فصاروا مع الحاكم الجديد يمجدونه ويهتفون بحياته، وبنسبون لسلفه العيوب والنقائص كما أسلفنا.

صالح جودت يهاجم عبد الناصر

وإني لأذكر جيداً أني قرأت في عام 1975 تقريباً عدة مقالاتٍ للشاعر صالح جودت في مجلة المصور يهاجم فيها عبد الناصر بضراوة،

ولما وصلَتْ إليه رسالةٌ من قارئ يقول له: وأين كنت أيام جمال عبد الناصر؟ أي لماذا لم تتكلم بمثل هذا الكلام في حياة عبد الناصر؟.

كان جوابه على تلك الرسالة أن ذكر أن الزعيم السوفيتي خروتشوف كان قد شنَّ حملة شديدة على سلفه ستالين متهماً إياه بالديكتاتورية والطغيان،

وأنه في أحد اجتماعات الحزب الشيوعي السوفيتي أرسلَ له أحدُهم ورقة فيها سؤال بدون توقيع يقول له فيه: وأين كنت أيام ستالين؟

ولما قرأ خروتشوف السؤال سأل: مَنْ صاحب هذا السؤال؟ وكرر ذلك عدة مرات، فلم يجرؤ صاحب السؤال أن يفصح عن نفسه.

فقال خروتشوف: إذن جوابي على سؤالك أنني كنت جباناً مثلَك. أي كما أنك الآن جبانٌ، فقد كنت أنا كذلك جباناً.

وقال جودت إن جوابه هو نفس الجواب وهو أنه كان جباناً.

وبالتأكيد هذا لا يصلح جواباً، بل هو عذر أقبح من ذنب، فالجبان يسعه السكوت،

ومَنْ لم يستطع أن ينطق بالحق فلا أقل من أن لا يتكلم بالباطل،

ثم هبْ أنك كنتَ جباناً في حياة عبد الناصر، فقد كان يسعُك السكوت بعد وفاته وزوال الخوف منه؟

نوعية موجودة في كل عصر

ولكن مع الأسف الشديد، هذه النوعية من الكُتَّاب والشعراء والإعلاميين، والمغنين والمغنيات، موجودة في كل عصر،

همُّهُم نفاق الحاكم كيفما كان، حتى إذا ذهب انقلبوا عليه، ولعنوه وصاروا يمجدون مَن بعده،

وكأنما شعارهم ما قاله الشيخ يوسف القرضاوي، رحمة الله عليه، وهو يتحدث عن مفهوم السعادة عند بعض الناس، وأنها عندهم تكون : 

في المشي خلف الركْبِ في ** دعـــةٍ وفي خــطو وئـــيدْ

فِي أن تقــــولَ كمـا يقـــــالُ ** فـــلا اعـــــتراض ولا ردودْ

في أن تسيرَ مع القطــــــيع ** وأن تقـــــادَ ولا تقــــــودْ

فِي أن تصيــــــحَ لكـــل والٍ: ** عاش عهــــدُكم المجيدْ

عافانا الله وإياكم من النفاقِ وأهلِه ،وجنَّبَنا وإياكم مواطنَ الزلل.

من د. عبد الآخر حماد

عضو رابطة علماء المسلمين