ألقيت درسًا أمام الطلاب، دعوتهم أولا إلى عرفان نعم الله سبحانه وتعالى والنظر فيها نظرة دقيقة شاملة؛

يستشعرون من خلالها قدرته التامة وعلمه الكامل ورحمته الواسعة، فوجودنا رحمة منه،

وتقلبنا في أياديه عطاء منه، وإيماننا وإسلامنا تفضل منه.

إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون

 وقلت: إني أكدت لكم مرارا في دروسي أن كلمات العباد لا تولِّد حقيقة، وأن كلمة الله هي التي تخلق الحقائق كلها،

وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون،

ولكن خطر ببالي البارحة أن هناك كلمة إذا نبعت من قلب العبد خلقت الحقيقة، وهي كلمة الشكر، فإذا شكرنا ربنا ازددنا نعمة،

فمن رغب في الاستزادة من النعم حقق رغبته بالشكر لله رب العالمين، والشكر دليل على الشرف،

ومن ثم أمر الله به عباده، لم يأمر به لأنه ينتفع به، وإنما أمر به عباده لينتفعوا به، وقال: اعملوا آل داود شكرا.

اللغة العربية التي عظمها الله

 ثم تحدثت عن هذه اللغة التي عظمها الله تعظيما ظاهرا، وجعلها أعجب اللغات وأبدعها، وأتم نعمته عليها بإنزال كتابه المجيد بها، وإرسال أفضل رسله إلى أهلها،

وهي أتم اللغات مفردات وتراكيب، وأوفقها لقوانين العقل والفكر، وأسدها وأبلغها لدى الحكماء المتفلسفين،

 ومن أنعم النظر في اللغة العربية ومناهجها وقلَّب أساليبها وطرق بيانها أيقن أن أهلها الأولين من الجاهليين والإسلاميين قد بلغوا الذروة العليا من العقل والفكر، والفهم والذوق السليم.

 واعلموا أنكم -وإن كنتم عجما وبعيدين عن العرب العرباء- تستطيعون بعزمكم الصادق وجهدكم المتواصل أن تساووا العرب بل وتفوقوهم في التمكن من اللسان العربي المبين،

فهذا سيبوبه أعجمي الأصل والمولد وألف أفضل كتاب في النحو العربي،

بل هو أجل كتاب في موضوعه، لا يماثله كتاب في أي لغة من اللغات،

وهذا أبو حنيفة أعجمي وصار أكبر الفقهاء، ولا يتأتى الفقه بدون العربية،

وهذا البخاري عمل أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى وهو عجمي النسب والدار واللسان، والأمثلة لا تنتهي.

قصتي في تعلم اللغة العربية:

 وسألوني عن قصتي في تعلمي اللغة العربية، وإني لأحقر من أن أذكر قصتي،

ولكن التلاميذ قد يفعل فيهم حديث معلمهم ما لا يفعل فيهم حديث غيره،

فحكيت لهم قصصا من طفولتي في سبيل لغة القرآن، وأستحيي أن أعيدها للقراء، ولا أراها تنفعهم.

 إن اللغة العربية أثرى اللغات وأخصبها، لا يتمكن منها إلا من وقف حياته لها والتذ بها،

وفيها من الخطب، والحكم، والشعر، والأخبار، والأمثال لا سيما نماذج العهود الأولى، ما يمتلئ حيوية، ويحمل لذة لا تعدلها لذة،

وإني حين أقرأ كتب الجاحظ، وابن المقفع، والمبرد، وابن عبد ربه، وابن قتيبة، والأصبهاني،

وأبي تمام، والبحتري، وأبي الطيب، وأبي العلاء أجد فوائد دونها الفوائد،

وأشعر بمتعة حقيقية أعجز عن وصفها، ومن ثم لا أمل قراءتها، ولا أسأم الأنس إليها، ولا ينقضي حبي لها وإعجابي بها،

وهواها عندي كالغناء أستحسنه ثقيلا وخفيفا،

وإني لأرى أن اللحان في العربية ليس أقل عقابا من فاسق يخل بصلاته إخلالا، أو يفسد صومه إفسادا.

 قلت لهم: إن السر في بعض معرفتي لهذه اللغة يرجع إلى عشقي إياها وهيامي بها،

ووالله إني لأسعى أن ينتفع طلابي بهذه اللغة كما انتفعت بها، وأن يستمتعوا بها كما استمتعت،

ولكنهم مع الأسف يقصرون في سبيل الطلب تقصيرا ظاهرا،

وإني لأعلم أن كثيرا من الناس يثقل عليهم كلامي هذا،

واستثقالهم لكلامي لا يثبطني عن نشر ما أؤمن به وأتيقنه.

د. محمد أكرم الندوي

من د. محمد أكرم الندوي

عالم ومحدث، من أهل جونفور الواقعة ضمن ولاية أتر برديش الهندية. وباحث في مركز أوكسفورد للدراسات