طالعتُ جملة مقالات لمن يسمُّون أنفسهم: «النخبة»، أو «المثقفين»، ينعون فيها أنفسهم وانتهاء حقبتهم، وكان بعضهم صريحًا حتى أنهم كتبوا عناوين مثل:

«موت المثقف»، «سقوط النخبة»، «سقوط المثقف»، «حصار المثقفين» إلخ،

وهؤلاء في الحقيقة كانوا أمناء إذ أدركوا أن ليس لهم مكان في مجتمعاتنا التي استغفلوها حينًا من الدهر.

عندما تُذكر «النخبة» أو يُذكر «المثقف» يتبادر إلى الذهن أولئك المتفلسفون أو المنظِّرون الذين تصادم رؤاهم أخلاق وقيم المجتمع،

ورغم ذلك فإنهم يطمحون دومًا إلى رياسة هذا المجتمع وزعامته على ما بينهم وبينه من نفور وشقاق،

وكانت حيلتهم للوصول إلى هذه المناصب الشرفية هو خضوعهم التام للمحتلّ أو المستبد، يستخدمونهم رأس حربة للنفاذ إلى أغراضهم الاستعمارية أو السلطوية.

فيما مضى،

أي قبل عقدين من الزمان، قبل تفجُّر ثورة المعلومات وانطلاق الشبكة العنكبوتية، دأبت تلك الجماعات على التنادي بأفكارهم ضمن ما يشبه التنظيمات الهرمية،

ولم تكن محصلة تلك الأفكار سوى الاستئثار بمصالح خاصة تصبُّ في جيب المثقف أو في تنمية وجاهته،

وإنْ طُرحت تلك الأفكار في قوالب مثالية مغلَّفة بالغموض تستهوي طائفة من الذين يروقهم خيالات المدن الفاضلة والأساطير المدغدغة.

حلّت «الشبكة العنكبوتية» مؤخرًا، بعفويتها وشعبيتها وتيارها الجارف، فأزاحت هذا الصنف غريب الأطوار عن سدة التثقيف الذي ما فتئ ينشره بالقسر مستعينًا بأجهزة الدولة ووسائلها المتسلّطة.

فوجئ «المثقفون!» -ولا أدرى أيّ ثقافة ثقافتهم- أنهم ليسوا على مستوى طموحات الشعوب، بعدما انتهى زمن احتكار المعرفة، وبعدما صار الملايين يساوونهم في المكانة والتأثير.

ولقد رأينا كيف أن رواد منصات التواصل قد اتخذوا من بعض رموز ذلك التيار غرضًا لسهامهم،

خصوصًا بعد مواقفهم المخزية حيال قضايانا المصيرية وأزماتنا السياسية،

وبعد عديد من رزالات تلك النخبة، الذين خاصموا الإسلام دونًا عن باقي المذاهب والديانات،

وجاهدوا فى مشوار التغريب ومحاولاتهم الدءوب في استبدال ثقافة المحتل الدخيل بثقافتنا وعاداته بعاداتنا،

وبعد تميز مواقفهم الداعمة للطغيان والتي يتضح منها عدم احترام وتقدير رغبات الشعوب.

التنظير والسعي نحو ريادة المجتمع

من أجل ذلك عزف الكثيرون من هذه «النخبة!» عن التنظير والسعي نحو ريادة المجتمع، وقد هاله الواقع وأفزعه أثر الدين فى شعوبنا، فأصبح ليجد نفسه كهباءة أمام ريح عاصف؛

إذ لغته ليست مفهومة، ومواقفه ليست مقبولة، ومبدؤه ينافى ما اتفق عليه الناس من صدق ووفاء؛

فالديمقراطية عنده هي ما تأتى به (دون غيره) إلى السلطة،

والوطن والمواطنة يخضعان لتفسيراته وتبريراته، وتجوزان -في نظره- للبعض وتحرّمان على البعض الآخر.

لم تعد المجتمعات تخدع كما خدعت في السابق، لم يعد يغريها الملسنون المفلسون من الإنجاز للصالح العام،

لم تعد تلك الجماهير بعدما قرُبت المسافات وصار الخاص عامًّا والمحجوب مكشوفًا تنساق وراء السفسطة الفارغة أو الأفكار الهلامية،

إنهم يريدون ثمارًا ناضجة لا أشجارًا عقيمة تنتج الشوك وتقطر المُرّ،

لم يعودوا يثقون فيمن يفتعلون الاحتجاج ويثيرون الفوضى، وإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا إذا هم يسخطون.

طائفة طارئة على مجتمعاتنا

أثبتت «الشبكة العنكبوتية» بلسان الحال، ما كان يقوله المصلحون فى السابق، إن هذه الطائفة طارئة على مجتمعاتنا، خارجة على نظمها وقيمها وتراثها،

وإن الأيام المقبلة ستشهد انزواءهم ثم غيابهم بالمرة،

بل سوف يدفعون أثمان تواطئهم مع أعداء الأمة واستخفافهم بشعوب بكاملها؛

ما يؤكد أن شعوبنا ليست ككل الشعوب؛

فإنها تمرض لكن لا تموت؛ لعوامل السلامة والنجاة التي تتوارثها جيلًا بعد جيل كأنها جينات قوية متغلّبة.

من عامر شماخ

كاتب صحفي مصري