بقلم  د. ياسر عبد التواب

ذكر تقرير نشر في صحيفة اندبندت البريطانية (15 ينيو 2023) وغيرها من المصادر أن أمريكا وقعت اتفاقا في شهر مايو الماضي مع بابوا غينيا الجديدة -كشف عنه أمس-  يتم به عمليا اعتبار الدولة بمنافذها ومداخلها تحت السيطرة الأمريكية بالتحكم التام وبما يعني بالمعنى القديم الاحتلال الطوعي للدولة: ويشير إلى الاتفاق الذي بقي سرياً منذ توقيعه، -وحصلت وكالة الصحافة الفرنسية على نسخة منه،- على برلمان بابوا غينيا الجديدة مساء الأربعاء مما سمح بالكشف عن تفاصيله.

يضيف التقرير أن الاتفاق ينص على منح واشنطن حق «الدخول بلا عراقيل» إلى المواقع من أجل «تخزين مسبق لمعدات وإمدادات وعتاد»، وحق «استخدام حصري» لبعض القطاعات في القواعد التي يمكن أن تشهد «أنشطة بناء».

واضطر رئيس وزراء بابوا غينيا الجديدة «جيمس مارابي» إلى الدفاع عن الاتفاق في مواجهة موجة احتجاجات تتهم السلطات بالتخلي عن سيادة البلاد، وقال مارابي أمام البرلمان مساء أمس الأربعاء «تركنا جيشنا يضعف في السنوات الـ48 الأخيرة»، موضحاً أن «السيادة تتحدد بصلابة وقوة الجيش».

ونقول:

كلام «جيمس ماربي أو مارب» رئيس وزراء بابو غينيا المنقول هذا هل يسوقه هو مبررا للتنازل عن السيادة باعتبار عجزه عن الامتناع عن توقيع التفاهم مع أمريكا ومن ثم يعد الخضوع لها ضرورة تستدعيها الظروف والضعف؟

 ويبرر هذا بعدم قدرة الجيش على الوقوف بصلابة دون الرفض لمثل هذا التدخل في السيادة ؟

فأين أوراق اللعب الأخرى؟ سياسيا وجغرافيا بل وحضاريا؟ وأين قدرة المسئول على المناورة والتفاوض والضغط واستغلال الصراع العالمي لصالحه أو على الأقل لتجنب المزيد من التنازل؟

اتفاق مجحف وله ما بعده:

هذا مفهوم الكلام عند تدبره لأنه جاء في سياق التبرير للاتفاق المجحف والمهين مفهوم تنازلنا لأننا لا نملك القوة للرفض

فيقول رئيس الوزراء بصراحة «السيادة تتحدد بصلابة وقوة الجيش«.

 و(بلسان الحال) وإشارة المقال: تم الضغط علينا لأننا ضعفاء ولا نملك جيشا يمكنه أن يقف بصلابة ضد هذا التدخل

ونرى هذه مبررات غير منطقية ولا واقعية فمعلوم أن سيادة الدول لا تتوقف فقط عند قوة الجيش -رغم أهمية ذلك- 

دور الجبهة الداخلية والإمكانات المختلفة في الاستقلال الوطني

نشير هنا  أولا إلى  الإرادة الوطنية والإجماع المجتمعي وتماسك الجبهة الداخلية

ثم  ثانيا إلى إجادة الاستفادة من إمكانات البلد المختلفة جغرافيا واقتصاديا وقدرتها على المناورة لتحقيق مفهوم السيادة التي اختزلها «مارب»  في ضعف الجيش ومن دون مفهوم السيادة والتي تعني بحسب المفهوم السياسي:

الحق الكامل للهيئة الحاكمة وسلطتها على نفسها، دون أي تدخل من جهات أو هيئات خارجية.فلن يتحقق وجود الدولة من الأساس

وهي -أي السيادة- تعني الصلاحيات التي تعد حقوقا للدولة ممارستها في النطاق الإقليمي لها، كحماية الحدود، الحفاظ على الأمن، وغير ذلك.

فهو هنا يدرك تماما تخليه عن تلك السيادة بمثل هذا الاتفاق ومن ثم تنازلت الدولة  عن مبرر وجودها وتماسكها وهي تعني الصلاحيات التي تعد حقوقا للدولة يجب ممارستها في النطاق الإقليمي لها، كحماية الحدود، الحفاظ على الأمن، وغير ذلك.

رئيس مستسلم ودولة ليست ضعيفة لهذا الحد:

ولقد بحثت عن معلومات عن رئيس الوزراء هذا بل عن بابو غينيا بشكل أكثر دقة فالمعلومات عنه شحيحة لكنه ليس عسكريا – كما تصورت من قبل بعدما قرأت تعليقه عن التصور العسكري للسيادة-  لكن كم من الساسة يتم زراعتهم أو التأثير عليهم أو شراؤهم حين الحاجة ويحسب لمن ينتمون لبلادهم ولحضارتهم بحق أنهم أكثر صلابة وقوة ومقاومة

 أما البلد فليس كما يتوارد أنها دولة إفريقية بل هي جزيرة كبيرة قريبة من إندونيسيا ومعنى هذا أنها تقترب من مناطق نفوذ الصين وتقارب مناطق مهمة حال تطورت الصراعات، ومساحتها حوالي نصف مليون كيلو متر مربع أي حوالي نصف مساحة مصر

وينتمي سكان بابوا غينيا الجديدة إلى مجموعات وطوائف عديدة، ويبلغ عدد اللغات واللهجات المستعملة فيها 820 لغة. وينجم هذا التنوع اللغوي والثقافي عن الظروف الطوبوغرفية التي تتميز بها الجزيرة، والتي أعاقت الاتصال بين المجموعات المختلفة. في المرج الكبير الموجود وسط الجزيرة

وعاش فيها وقتها نحو 50 ألف شخص مقسمين إلى طوائف مختلفة ومنعزلين بشكل تام عن باقي العالم حتى سنة 1938 عندما حامت مروحية فوق المرج واكتشفتهم

وبابو غينيا الجديدة يقطنها أكثر من 9 مليون نسمة

 ويبلغ مستوى الدخل القومي السنوي للشخص حوالي 2750 آلاف دولار من إجمالي الناتج المحلي

وهو مستوى يعلوا بكثير عن مستويات كافة الدول النامية ويقترب من دول الأفضل حالا

(على سبيل المثال: أفغانستان التي تحررت من أمريكا دخل المواطن حوالي 370 دولار سنويا وكل الدول الإفريقية لا تتجاوز الـ900 دولار وسوريا حوالي 580 واليمن حوالي 750  وإندونيسيا المجاورة بحدود 4300 دولار)

 لا حاجة حقا للتنازل ولا لتحمل ثمن ضياع الدولة:

فقد ضاعت دول كثيرة وسقطت إمبراطوريات عظمى بسبب قرارات كهذه وبسبب شخصيات لم تراعي مصالحها وخضعت للضغوط أو باعت البلاد لصالح أعدائها

فعند التأمل لا نجد حاجة ملحة لمثل هذا التنازل ولا لاعتبار الدولة في موقف الضعف مهيض الجناح

بل لقد رأينا دولا عدة استطاعت اختطاط سياسات اكثر استقلالا وحتى واجهت الدول العظمى وأجبرتها على احترامها واستقلالها ولو بعد كفاح فنجت من هذه المصائر وذلك الضياع

 الخلاصة أن

 لم ينتشر مفهوم «معيار الحضارة» الراديكالي حتى القرن التاسع عشر لوصف بعض الشعوب في العالم بـ«غير المتحضرين»، وبالتالي يفتقرون إلى الاجتماع المنظم.

فبهذه النظرة تتعامل الدول الغربية والشرقية المتنفذة مع الدول والشعوب المستضعفة  ولو استسلمت الدول الأضعف لهذه الفكرة فتستكين لضعفها وتستسلم للضغوط ستضيع حقوقها وتدفع أثمانا باهظة  أثناء تجنبها للضغوط أو خضوعها للابتزاز أو حتى إغراءها ببعض المكتسبات

 وستجلب على نفسها الدمار عند المواجهات التي لا ترحم بين القوى المتنازعة على أرضها والتي ستجلب لها مزيدا من الضعف والضياع والتبعية