عجبا لي.. كلما أردت أن أتلمس طرق الهداية، أجد عقلي يقودني لكتب العلماء وتراث الأفذاذ من الفقهاء والمفسرين.

وكلما أعيتني مسألة من المسائل وحرت فيها، أجد نفسي ممسكا ومحلقا بكتب الأولين من سلف الأمة الأماجد حتى أعرف وأتعلم وأفهم وأهتدي.

هذا هو حالي الذي استنكرته اليوم وسط هذه الدعاوى الشوهاء التي تدعونا وتنبح في ليالينا، تخثنا أن نعرض عن كتب الأولين واجتهادات السالفين، وكانها اجتهادات من وحي الشيطان لا من وحي العلم.

ولله در القائل:

«من كان متأسيا فليتأس بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة»

هل تتخيل أن يتعرض هذا العلم الكبير والتراث الواسع والأسفار العظيمة، التي مازالت إلى اليوم تضيء حياة المسلمين نورا وتملأها هداية،

هل تتخيل أن يأتي اليوم من ينعتها بالجهل والظلام والتخلف والرجعية، وينسب إليها سبب تخلف المسلمين وتدهور عقولهم؟!

اليوم ظهرت دعاوى غريبة مريبة، لم نسمع بها من قبل، تحاول جاهدة أن تشوه صورة الفقهاء والمفسرين في عصور الحضارة الإسلامية الماضية وما تلاها،

والذين كانوا بما قدموه من تأويل واجتهاد وفق الشريعة، ووفق مقدرات العلم، أعلام هدى في حياة المسلمين، فأناروا دروب الظلام،

وعرفوا الناس بأسرار دينهم وجمال شريعتهم، ليأتي اليوم من يشيطن أقوالهم ويرفض اجتهاداتهم،

ويحاول أن يصور للناس أن هؤلاء بما قالوا واجتهدوا شر عظيم، وأن البعد عنهم فريضة يدعو إليها العقل الحر، أو العلاقة الحرة مع الله.

تصور ظالم ماكر خداع، يوهم الناس أن هذه الاجتهادات من وحي عقول الفقهاء، وليس لها سناد من الشرع الحنيف ولا تعتمد في منطوقها على نص من الكتاب والسنة.

وإنك لتعجب!

ما الذي صنعه الفقهاء والمفسرون حتى يستحقوا هذا التجني عليهم؟! وما هي الرؤى والفتاوى التي قدموها حتى يضعهم هؤلاء في مرمى هذه الخصومة وكأنهم شياطين؟!

بعض الكتاب والعلمانيين، يتبنون أو تستهويهم مثل هذه الدعاوى، لأنهم يجدونها من معالم الحرية، فهم يرفضون أقوال الفقهاء، ويرون أن الحرية تفرض عليهم أن لا ينصاعوا لشيء،

فلهم عقولهم وآراءهم واختياراتهم كما كان لهؤلاء، ولعلهم بهذه الرؤية يتصورون الفقيه والعالم، من هؤلاء الذين يجلسون معهم على القهاوي،

أو يتنزهون معهم في الأندية والحدائق، وليست لهم خلفية عن هذا الجهاد العظيم والكفاح المدوي،

الذي بذله أحدهم في طلب العلم، وحتى يحوز هذه المنزلة التي تؤهله إلى مرتبة الاجتهاد.

يتصور أمثال هؤلاء

أن الدين مُضغة يمكن لأي أحد أن يضعها بين فكيه ويمارس الضغط عليها بأسنانه،

أو يتصورونه كذلك كتلك العجينة التي يمكن لأي أحد أن يقبض عليها بأصابعه، فيجدها تلين معه،

لا يا سادة الدين له علومه العظيمة التي تحتاج إلى متخصصين حتى تتعلمه منهم فيرشدونك فيه ويعلمونك إياه.

متخصصون لهم شروط وآلات خاصة ودقيقة، لابد أن تتحقق فيهم حتى ينالوا هذه المرتبة، من العلم باللغة والحديث والأصول، وغيرها من العلوم المتممة التي رقتهم إلى هذه الرتبة،

ولو أنك ذهبت لأي علم من العلوم، فلن تفهم فيه شيئا إلا إذا شرحه لك متخصص، وكذلك الدين أو علوم الدين،

لابد فيها من الهداة المعلمين الذين وصفهم الله تعالى بأنهم أهل الذكر.. فقال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)،

وقد قيل: أوجب الله تعالى الرجوع إلى استنباطهم دون غيرهم، وسماهم أولي الأمر،

وقرن الرجوع إليهم بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:

(ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم؛ لعلمه الذين يستنبطونه منهم)!

الأمر إذن لا يحتاج لكثير من التفكير والتأمل لإدراك البعد الذي تجنح إليه مثل تلك الدعاوى الخبيثة الماكرة،

فقائلها لا يتعدى إلا أن يكون أحد رجلين:

الأول:

أن يكون جاهل بأقدار العلماء ومتطلبات العلم الشريف، فلا يعرف قيمة العلماء الذين مدحهم الله وأوجب الرجوع إليهم والسؤال إذا أشكل الحال.

الثاني:

أن يكون علماني أو يساري أو متغرب خبيث ماكر له مآربه الشيطانية التي يسعى إليها وينشد قصدها ويحوم في سبيل تحقيقها.

العلمانيون اليوم يرددون مثل هذه الدعاوى بعد أن أعياهم هدم التراث الإسلامي الفريد،

وتجريد الأمة من ماضيها المنير الذي يحمله، فماذا يفعلون وكيف يكيدون؟!

لابد من وسيلة أخرى وطريقة جديدة،

وهي التشكيك والطعن في اجتهادات العلماء، ومحاولة إظهارها على كونها افتئات على الله،

أوحت بها عقولهم وأهواؤهم وليس لها سناد من العلم والهدي، والحق والشرع.

محاولة رخيصة تحاول أن تضع فقهاء الإسلام وعلمائه وتساويهم بالقساوسة والرهبان في العصور الوسطى

الذين كانوا أنصاف آلهة يملكون صكوك الغفران وكانوا ويدخلون من يشاؤون الجنة، ومن يشاؤون النار.

أما علماء الإسلام فلم يفرضوا وصايتهم على أحد، ولم يدعوا في أقوالهم العصمة،

ولم يلزموا الأمة باجتهاداتهم، فعلى العكس لقد كان منهم من يقول:

(رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)،

وقالوا: (رأينا هذا أحسن ما قدرنا عليه، فمن كان عنده أحسن منه فليأتنا به)

وإذا كان هؤلاء اليوم يعلنون مثل هذه الدعاوى الشيطانية الخبيثة،

ليقوم المسلمون بهجر العلم والهداية، فمن نتبع إذن في فهم الإسلام،

وقد من الله على هؤلاء ووفقهم على قدر ما يملكون من مقدرات العلم لاجتهادات ناجحة واعية عيقة حاذقة، ترشد الناس في حيرتهم.

فما العيب إذن في اتباع أقوال الفقهاء، وما الجناية التي قدموها في حياتنا حتى نتخذ منهم هذا الموقف،

خاصة أن أقوالهم غير ملزمة، ولم يدعوا الوصاية على أحد؟

لابد لنا أن نكون واعين متبصرين بكيد الكائدين ومؤامرات الحاقدين.

لقد تبين لي خلاصة أغراض هؤلاء المهرجين، فهم يريدون أن يتيه المسلم وسط النصوص،

ويتخبط بين الأحكام، بلا علم ولا دراية،

حتى يقوده الجهل والخطأ، ويفحش برأيه القاصر في دين الله.

إن دعوتهم لا تقوم على التحريض في الانفضاض عن علماء السلف وحدهم، وإنما الغاية المثلى أن ينحرف المسلم، عن كل العلماء حتى المعاصرين،

فمن الطبيعي أن العالم الحالي ليس بأفضل من العالم السالف، وهنا نتحرر من أقوال العلماء، فنضل ونتيه،

ونعرض عن أمر الله تعالى حينما أمرنا أن نسألهم ونتعلم منهم.