محمد إلهامي، باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية

مما استغربه الجبرتي من جنود الحملة الفرنسية «أن الكثير منهم يظل طول النهار فوق ظهر الحمار بدون حاجة سوى أن يجري به مسرعا في الشارع وكذلك تجتمع الجماعة منهم ويركبون الحمير ويجهدونها في المشي والاسراع وهم يغنون ويضحكون ويصيحون ويتمسخرون»!

هذا المشهد هو نفسه من وجهة نظر الجندي الفرنسي يُروى على نحو آخر، وذلك أن الفرنسيين أعجبهم الحمار، لا سيما الحمار الصغير «الجحش»، أعجبهم حجمه الصغير وخفة حركته، فما هو إلا أن بدؤوا استعماله في المسابقة!

تلك واحدة من الأمور التي يرى المرء فيها كيف تلتبس الأمور وتضطرب، وتختلف الروايات باختلاف المرجعيات..

فالجبرتي، الشيخ المسلم، ابن الثقافة الإسلامية، يستغرب هذا الصنيع، وذلك أنه يعرف ويستحضر وصية النبي في الرحمة بالحيوان، فقد تعددت الأحاديث الصحيحة في ذلك، ومن أشهرها أن النبي دخل بستانا لأحد الأنصار، فلما رآه جَمَلٌ أقبل عليه وحنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي فمسح عليه، ثم قال: من رب هذا الجمل؟ فقال الأنصاري: لي يا رسول الله. فقال: ألا تتقي الله في البهيمة التي ملَّكك الله إياها؟ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتُدْئِبه (يعني: تتعبه).

وقال رسول الله في أحاديث عدة: إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، وإياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم كراسي!

وهذه الأحاديث صارت أصولا طفق الفقهاء بعدها يأخذون منها الفروع الدقيقة في تحديد إتعاب الدابة، وتحديد الأحكام المترتبة على ذلك.. فالدابة التي لا تطيق أن يركبها اثنان لا يجوز أن يركبها اثنان، والتاجر إذا عرف أن المشتري يقسو على الحيوان لم يجز له أن يبيع الحيوان له ولا حتى أن يؤجره له!!

بل لقد أمر النبي لمن يحلب الشاه أن يقص أظافره لكي لا تخدش أظافره ضرع الشاه!!

ولا مجال الآن لتتبع هذا الفقه العظيم المدهش المبثوث في تراثنا العظيم..

وهذه الثقافة في التعامل مع الحيوان جعلت المسلمين يُعرفون بأنهم أرحم الناس بالحيوان، حتى يقول جوستاف لوبون:

«يعامل الشرقيون الكلاب وجميع الحيوانات برفق عظيم، ولا ترى عربيا يؤذي حيوانا، وإيذاء الحيوان من عادة سائقي العربات في أوربا، وليس من الضروري -إذن- أن يؤلف العرب جمعيات رفق بالحيوان، والحق إن الشرق جنة الحيوانات، وفي الشرق تراعى الحيوانات الكلاب والهررة والطيور.. وتحلق الطيور في المساجد، وتوكر في أطنافها مطمئنة، وتأوي الكراكي إلى الحقول من غير أن تؤذى، ولا تجد صبيا يمس وكنا، وقد قيل لي في القاهرة بصيغة التوكيد -وهذا يدل على ما ذكره بعض المؤلفين- إن في القاهرة مسجدا تأتيه الهررة في ساعات معينة لتتناول طعامها وفق شروط أحد الواقفين منذ زمن طويل، وجزئيات كتلك تدل على طبائع الأمة، وتدل على درجة افتقار الأوربيين إلى تعلم الشيء الكثير من حلم الشرقيين وأنسهم»

وهذا بابٌ طويل عريض عظيم من أبواب الإسلام، من قرأه وتعمق فيه ازداد إيمانا بأن الإسلام هو دين من عند الله، وأن رسول الله محمد هو رحمة الله للعالمين -لا للبشر وحدهم- وهو باب فارق يثبت نبوة محمد ، فإنك لن تجد فيلسوفا ولا مفكرا انشغل بإصلاح حياة الناس ثم هو في ذات الوقت ينشغل براحة الحيوان!!

وحتى لو وُجِد فيلسوف انشغل بالحيوان، فلن يكون لقداسة كلامه ولتأثيره في أتباعه ما لقداسة كلام محمد وتأثيره في أمته، ولن تجد مدارس قانونية أخذت كلامه لتستخرج منه دقائق قانونية شاملة.. وحتى إذا وُجِد هذا فلن تجد شعوبا اتبعت كلام هذا الفيلسوف وقانونه كما تجد أمة النبي قد طبقت كلامه.

لم ير الفرنسيون في الحيوانات إلا مادة استعمال وترفيه، ولهذا اتخذوها للسباق وهم يضحكون ويمرحون.. بينما صاحبنا الجبرتي صار ينظر لهذا المشهد وهو دهش، لا يفهم ماذا يفعل هؤلاء!

الأصل الكبير الذي يفرق بين التعامل الإسلامي وغيره من المناهج الوضعية هو أن المسلم يعرف أن كل شيء في هذه الحياة إنما هو أمانة استخلفه الله عليها واسترعاه إياها، وعليه أن يقوم فيها بما أمره الله تعالى، وإلا فإنه سيُحاسب على ذلك.. فقد يدخل الجنة لو سقى كلبا، وقد يدخل النار إن حبس هرة!

بينما المناهج الوضعية لا ترى في الأشياء إلا ممتلكات، يتمتع بها صاحبها كما يتمتع الرجل بأملاكه، لا يُسأل عما يفعل، وليس ثمة خطوط حمراء لتحقيق منفعته أو حتى متعته بهذه الممتلكات!

والمسألة طويلة الذيل جدا.. وهذا حرف فيها، استفزته عبارة الجبرتي رحمه الله!

من محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية