اعتلت القطة كتف الإمام في الصلاة، فحنا عليها وهش لها وبش.

ومن ورائه كان حديث هذا العالم الذي يفتقد معاني الرحمة، ويتيه في شقاء الجفوة، وصدق جهولا ما يشاع عن الإسلام من أنه دين القسوة وملة الوحشية وعقيدة العنف.. فإذا به يصفق مدهوشًا وكأنها حادثة غريبة وحالة نادرة، وإذا الناس في كل صقع وبقع يتناولون هذه العجيبة في دنيا الشقاء، ولسان حالهم ينطق ويقول:

واعجباه رجل مسلم يرفق بقطة! يالها من رحمة لا نظير لها، وإنسانية فاقت كل معاني الرفق واللين.

ولكن تراثنا الزاهي المجيد حاضر هنا وشهيد على نقول، فما فعله هذا الرجل ما هو فيه إلا مقلد متبع لأئمة وعلماء وقادة عظماء وأهل زهد وورع علموا العالم معنى الرحمة والرفق بالحيوان قبل الإسلام.. وكانوا تعبيرا صادقا لهذه الرسالة التي وصف الله نبيها بقوله: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)

وإنك حينما تطالع سيرة الصحابي الجليل أبي هريرة، لا يسعك إلا أن تقول ما أجمل الرجل حينما تشبه بِسيدِهِ، وأعاد إلى الأذهان صورته، فلماذا سمي أبو هريرة بهذا الاسم، وكني بهذه الكنية، وهو الذي كان اسمه عبد الرحمن بن صخر، ومن يا تُرى سماه بها وأطلقها عليه ولماذا؟

يقول أبو هريرة: «كان اسمي في الجاهلية عبدَ شمس بن صخر، فسمّاني رسولُ الله عبدَالرحمن، وكُنيتُ أبا هُريرة لأني وجدتُ هرة فحملتُها في كمّي، فقيل لي: أبو هُريرة»

وعن عبيد الله بن أبي رافع قال: قلتُ لأبي هُريرة: لِمَ كنيتَ بأبي هُريرة؟

قال: كنتُ أرعى غنمَ أهلي، وكانتْ لي هِرةٌ صغيرةٌ، فكنتُ أضعُها بالليل في شجرة، وإذا كان النهار ذهبتُ بها معي فلعبتُ بها، فكنوني أبا هُريرة.

واعلم يا أخي أن القط وعنصر القطط، من أرحم الحيوانات قلبا وأرقهم أفئدة، ولها في خبر الإسلام خير ذكر وعظيم شأن، بل ارتبط اسمها دوما بالرحمة والجنة في الأحاديث والآثار.

قال : «عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ في هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حتَّى ماتَتْ، فدخَلتْ فيها النارَ، لا هيَ أَطْعَمَتْهَا، ولا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، ولا هيَ تَرَكَتْهَا تأكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأرض»

وعن جابر – رضي الله عنه – عن النبي قال: «عُرِضتْ عليّ الجنة، حتى لو تناولتُ منها قطفًا أخذته، (أو قال: تناولتُ منها قطفًا، فقصرتْ يدي عنه)، وعُرِضتْ عليّ النارُ فرأيتُ فيها امرأة مِنْ بني إسرائيل تُعذَّب في هرةٍ لها، ربطتْها فلم تطعمْها، ولم تدعْها تأكل مِنْ خَشَاشِ الأرضِ، ورأيتُ عمروَ بن مالك يجرُّه قصبه في النار»

بل هل يعلم هذا العالم المندهش أننا أول أمة في العالم تؤلف كتبًا عن البر والعطف بالقطط فللعلامة شمس الدين ابن طولون الحنفي الدمشقي (ت: 953هـ): «إظهار السر في فضل الهر»، ذكره لنفسه في كتاب سيرته، وللشيخ عبدالقادر بن محمد الأنصاري الجزيري الحنبلي (توفي بعد سنة976): «رفع المَضرَّة عن الهر والهرة»

كماهناك ما كتبه العلامة الملا علي بن سلطان محمد القاري الهروي المكي الحنفي (ت: 1014هـ): تحت عنوان «البَرَّة في الهرة»، وهي مخطوطة ضمن مجموع في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد.

وروى ابنُ عساكر في «تاريخه» عن بعضِ أصحاب الشبلي أنه رآه في النوم بعد موته فقال له: ما فعل اللهُ بك؟

فقال: أوقفني بين يديه وقال: يا أبا بكر أتدري بماذا غفرتُ لك؟

فقلتُ: بصالح عملي. فقالَ: لا.

فقلتُ: بإخلاصي في عبوديتي. قالَ: لا.

فقلتُ: بحجّي وصومي وصلاتي. قالَ: لم أغفرْ لك بذلك

فقلتُ: بهجرتي إلى الصالحين، وإدامة أسفاري في طلب العلوم. فقال: لا

فقلتُ: يا ربِّ هذه المُنجيات التي كنتُ أعقدُ عليها خنصري، و ظنّي أنك بها تعفو عني وترحمني. فقال: كل هذه لم أغفرْ لك بها.

فقلتُ: إلهي فبماذا؟

قال: أتذكرُ حين كنتَ تمشي في دروب بغداد، فوجدتَ هرةً صغيرةً قد أضعفَها البردُ، وهي تنزوي مِنْ جدارٍ إلى جدارٍ مِنْ شدة البردِ والثلجِ، فأخذتَها رحمةً لها فأدخلتَها في فروٍ كانَ عليك وقايةً لها مِنْ ألمِ البرد؟

فقلت: نعم.

قال: «برحمتِك لتلك الهرةَ رحمتُك»

وعند نهاية هذا المطاف إليك خبر ابن سميع الحلبي (مِنْ أهل القرن السادس الهجري):

قال الإمامُ ابنُ العديم (ت: 660هـ) في ترجمة أبي سعد بن أبي الحسين بن عبدالله الشرابيشي الحلبي في بغية الطلب في تاريخ حلب:

«سمعتُ الشيخ الصالح أبا عبدالله محمد بن أبي سعد قال: حدثني أبي قال: كان بحلب رجل يقال له ابن سميع يسكن بباب اليهود الذي يقال له الآن باب النصر، وكان ضامن سوق الدواب مكاسا.

قال الشيخ محمد: وكان بينه وبين والدي معرفة، فاتفق أن حضرته الوفاة فأوصى إلى والدي أن يخرج عنه حجة وصدقة، وغير ذلك، وكان له أخوات لم يكن له وارث غيرهن، وكان لبيت المال معه تعلق، وأثبت والدي وصيته عند مُحيي الدين بن الشهرزوري، وحضر بعد موته بمدة نوابُ الحشر ووالدي داره لاعتبار تركته.

قال والدي: فابتدر أحد الجماعة وقال: رأيته في النوم وهو على حال حسنة، وقال لي: غفر الله له بهذه القطيطة، فنظرت فإذا هرة مبتلة في الشمس، فسمع أخواته من أعلى الدار قول القائل عن المنام فقالوا: واللهِ نعرفُ له حكاية مع هذه القطة التي تذكر، وذلك أنه كان له هرةٌ يألفها، وتدورُ به ويحضنها، ويطعمها على مائدته، ويأنس بها، فاتفق أنه خرجَ يومًا إلى سوق الدوابِّ فمضتْ الهرة إلى المُستراح فسقطتْ فيه، فلما جاء من سوق الدوابِّ وعليه الترابُ جلس ومدَّ رجليه إلى أسفل القاعة، وطلب ماء ليغسلَ رجليه وسأل عن طعامٍ هيئ له، فصعدتْ أختُه لتصبَّ له الطعام، وبقيتْ أختُه الأخرى عنده تغسلُ رجليه، فقالتْ له: ما تعلمُ يا أخي ما جرى على القطيطة؟

فقال لها: وما ذلك؟

قالت: سقطتْ في المُستراح.

فقال: لا آكلُ حتى أخرجها، ومنعهم من إنزال الطعام، وقام وشمّر ثيابه، وأخذ المجرفة، وجاء إلى المُستراح وفكَّ البلاط، وحفرَ حتى وصل إلى رأس الجب الذي يستخرج منه الغائط، فأراد رفعَ الطابق فامتنع عليه، فخرج إلى خارج الدار واستعان بمَنْ أعانه على قلعه، ثم حفرَ في الحائط، وعارضَ خشبة، وجعلَ فيها حبلًا وأمسكه بيده وانخرطَ فيه حتى نزل، فوجد الهرةَ جالسة على التقن، فأخذها وصعِد، وغسلها، وتركها في الشمس حتى يبست، فهذا حالُه مع الهرة»