رأيت عينيها ومن ساعتها لم أنم .. نعم رأيتها ومن أول النظرات وقع حبها في قلبي
تمنيت أن أكون عندها وأمسح شعرها الذهبي بيدي وأمسك بكفها الصغيرة الرقيقة الناعمة
نظرت إليها فضحكت ملء فيّ إذ كانت كل ملامحها الجميلة فلسطينية بامتياز
فعيناها واسعتان عسليتان يملأهما الحزن والحنين ككل بنات فلسطين
بشرتها بلون حنطة الخليل في مواسم الحصاد .. ووجهها مشرق كبرتقال يافا
لكنها كانت حزينة حزينة تتساقط على وجنتيها حبات اللؤلؤ وكأنها تنزف من دمي
كدت أصرخ كفى يا حبيبتي سأموت لو لم يتوقف نزيف قلبي .. أقصد دمع عينيك
والجو مفعم برائحة الموت وأزيز الرعب والخراب والدمار في كل مكان
لم تكبر بعد ولا أحد يدري هل ستكبر لتكون عروساً مفعمة بالجمال والدلال
وهل ستكبر لتصبح عجوزاً ممتلأة تلتحف نطاقها الأبيض السابغ ككل عجائز فلسطين .. لا احد يدري!
كانت الصغيرة الجميلة تلخيص دقيق ووافي لكل بنات ونساء فلسطين
ونساء فلسطين لمن لا يعرف غير نساء الدنيا كلهن لا تفرح الواحدة منهن إلا مرة واحدة
يوم عرسها!! ثم تبدأ رحلة الشقاء والعناء من أول يوم تتحمل أعباء الزوج والأولاد وأقلهن ذات عشرة
ويصدق فيهن بحق أخوات الرجال .
فرجالهن غالباً كالطير المهاجر أو الفرس الجامح لا يحبون القرار والمكوث في محلة واحدة ، مما يزيد من شقائهن
كما وأن رجال فلسطين لا تظهر مشاعرهم بسهولة فوجوههم جامدة ثابتة الأسارير .. بعكس نسائهم
فالمرأة من فلسطين وجهها كتاب الحزن والأسى .. كأن الله خلق الحزن كله لهن وارتسمت آياته كلها في وجوههن
ولم يبق منه إلا جزء يسير وزع على بقية الخلائق.
فأخوها شهيد وأبوها شهيد وابنها شهيد …..
وكأنها خلقت في عجلة الموت أو رحاه الدائرة بلا توقف
الشرف مركوز عندهن بين الجلد واللحم والأرملة تموت جوعاً ولا تتزوج بعد زوجها .. وتمتهن أي مهنة شريفة مهما كانت شاقة وبسيطة لتطعم صغارها.

غزة تحترق

أوحشتني يا حبيبتي فأعود إليك ..
نعم أحببتك يا صغيرتي وذكرتني دموعك بدموع آلاف البنات والأطفال غيرك من فلسطين
وكأن الناس أدمنوا رؤيتها كل يوم مائة مرة حتى لكأنهم صاروا يتسلون بالفرجة عليها
وحاولت أن أتذكر كم عام مر على هؤلاء الأطفال وهم يبكون؟!
وهالني ما تذكرت ..
لم يأمن طفل في فلسطين منذ مائة عام أو يزيدون
الأطفال يبكون جيلاً بعد جيل يتلهون عن الفرح بالبكاء كما يتلهى أطفالنا عن البكاء باللعب .
وبالمناسبة لم أر لعبة في يد طفل من هؤلاء البكائين يوماً
وتساءلت في عجب كيف لم تجر الأنهار في فلسطين من الدموع و البكاء ..
وكأن الأرض المباركة لم ترتو من دمعهم بعد
وكيف تجري دماء آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأقاربهم كلها منذ مائة عام ولا تجف
وكأن الأرض المقدسة تلفظ الدم وتبتلع ماء العيون
نعم مائة عام أو يزيدون لم تشبع بطونهم الجائعة ونحن نموت من التخمة
أولادهم يولدون للفناء
وكأنه دين في عنق أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يؤجل ولا نظرة فيه ولا ميسرة
وكأن سداده في أعناقهم هم .. وهم فقط
وكأنه لا يسد بغيراللحم والدم
نعم أبكاني دمع عينيك يا صغيرتي وأرق بالسهاد جفوني
ليتني كنت عندك فأضحك ثغرك الصغير ولو بمالي كله
ليتني كنت عندك فأمسح دمعك الغزير ولو باثوابي كلها
ليتني كنت عندك فأعطيك الأمان يا حبيبتي ولو بعمري كله وبلحمي كله وبدمي كله
وهو ثمن بخس زهيد في مقابل لحظة واحدة تفرحين فيها أو تأمنين فيها
رأيت اليوم امرأة فلسطينية تبكي كالعادة ، وهي تحمل ولدها المصاب والدماء تغطيه و تلصقه ببطنها ، ثم تكاد أن تدفعه لهم ليداووه فلا تطيق من شدة الرحمة فتشده إلى صدرها مرة أخرى مراراً وتكراراً حتى كاد ينفلق لها والله كبدي
أحرقت والله أبناء فلسطين كبدي وأفزعت دمائهم وأشلائهم نومي وغص لدموعهم مطعمي ومشربي
وفي قلبي غصة وحزن لا يزول حتى أنتقم ممن خانهم وحرمهم قبل أن أقتل وأقاتل من قتلهم وشردهم وأذلهم
فاللهم العن أمة أحرقت قلوبهم وقتلت فلذات أكبادهم
واللهم العن أمة كشفت حريمهم وروعت عيالهم وأذلت رجالهم
واللهم العن من خانهم وحاصرهم وحرمهم وباع أرضهم ومقدساتهم
واللهم العن من خانهم وحالف أمة الذلة والمسكنة والمغضوب عليهم وعبد الطاغوت واتخذهم خلة له من دونهم
واجعل ذله من ذلهم ومسكنته مسكنتهم واحشره محشرهم
وأنت يا صغيرتي أعاهدك أنني لن أنساك وإن لم أواسك بدمي ومالي ونفسي وعمري
لأواسينك بولدي وولد ولدي فلا خير في لو لم أضع دينك في أعناقهم وأبرا منهم إن خذلوك كما خذلتك
وأخيراً سامحيني يا بنيتي
سامحيني يا حبيبتي

من د. خالد سعيد

أحد أبناء الحركة الإسلامية - مصر