كأي عربي يعيش في إسطنبول منذ سنوات لا أخفي مشاعري عن تمنياتي بفوز أردوغان في الانتخابات القادمة وهذا أمر لا أربطه بمواقف سياسية أو مقاربات أيدولوجية بقدر ما أربطه بموقف إنساني فطري نابع من تخوفات حقيقية على أوضاع الآلاف من العرب وغيرهم في حال فوز المعارضة في تركيا. والحقيقة التي لا يستطيع أن ينكرها من عاش في تركيا خلال هذه السنوات وتفاعل والتقى مع الكثير من الأفاضل والمحترمين من الجاليات العربية المختلفة ولمس فيهم الأوضاع الصعبة التي تعرضوا لها في بلادهم ثم أوضاعهم بعد أن وصلوا إلى اسطنبول، أن مشاعر طبيعية قد تولدت عند هؤلاء العرب نحو تقدير الحكومة التركية وأردوغان والأهم من ذلك أن هناك مشاعر قد تولدت أيضاً من الخوف والقلق على أحوال آلاف العرب وغيرهم وحجم الصعوبات التي ستواجههم في حال تخلت أي حكومة في المستقبل عن سياسة استقبالهم والترحيب بهم في تركيا.

 ثم إني كواحد من المؤمنين بالديمقراطية ومن الحالمين بـأوطان تتعزز فيها قيم وممارسات الديمقراطية الحقيقة أجد نفسي في حيرة وارتباك من موقفي من أرودغان حيث لا يخفى على أحد ما تعرض له مسار الديمقراطية في تركيا في السنوات الأخيرة، وهو أمر يمكن أن تكون له أسبابه الواقعية العديدة وسياقات إقليمية ودولية معقدة يتفهمها البعض ويغفل عنها البعض سواء عن قصد أو غير قصد، ولكن المحصلة أن صورة أردوغان كأحد رواد الإصلاح وتعزيز الديمقراطية في مطلع الألفية الحالية قد اهتزت في السنوات الأخيرة وجعلت من تأييده بين أنصار الديمقراطية أمراً مربكاً.

 وبالرغم أني من الناحية الإنسانية أتمنى فوز أردوغان إلا أنني بالفعل كان لدي حرص على متابعة وفهم سياسات المعارضة التركية المتمثلة في المرشح الرئاسي كليجدار أوغلو. وبمعنى آخر كان السؤال الذي يدور بداخلي إذا كان بالفعل فوز المعارضة أو كليجدار أوغلو بالانتخابات سيعزز من قيم الديمقراطية فيجب أن انتبه إلى هذا التناقض الداخلي بين ما أراه إنسانيا وبين ما أؤمن به كآلية لتداول السلطة، وهذا ما جعلني أقف أمام سؤال عن ما إذا كان فوز كليجدار سيجلب معه ديمقراطية حقيقة في تركيا بالفعل أم لا؟ وتجنبت في الإجابة عن هذا السؤال قناعات وأفكار كليجدار وحزبه التي ترتكز على العلمانية والتي تختلف عن قناعاتي وأفكاري في محاولة للوصول إلى إجابة موضوعية في حوار داخلي مع نفسي.

خلال هذه الفترة من الحوار الداخلي ومن متابعة الأحداث والتصريحات للجانبين بات لدي شعور يلازمني باستمرار وهو الاستفزاز من محاولة تصوير فوز كليجدار أوغلو على أنه فوز للديمقراطية وتعزيز لقيمها في تركيا، ولم يكن السبب الرئيسي وراء هذا الشعور هو االتسويق الغربي الكثيف لهذه الفكرة للدرجة التي دفعتني لفقدان الأمل في متابعة دراسات أو أوراق بحثية غربية تتناول المشهد الانتخابي التركي بموضوعية دون أن تتحول لمقالات تأييد مباشر للمعارضة والاستدلال بمؤشرات لفوز المعارضة من الصعب أن تتخيل أن من يستخدمها هو أكاديمي يدرك ما هي المعايير المنضبطة لأي مؤشرات يمكن استخدامها والاستدلال بها في دراسة معمقة.

ولكن السبب الرئيسي في الواقع يعود لكليجدار أوغلو نفسه والذي لا أرى فيه نموذج لرئيس يمكن أن يجلب معه الديمقراطية كما يتم المبالغة في هذه الدعاية بشكل كبير سواء داخليا أو خارجباً.

فلا استطيع أن أفهم كيف يمكن لشخص يتسق مع قيم الديمقراطية أن يكون العمود الرئيسي الذي يرتكز عليه في دعايته الانتخابية هو تسليم اللاجئين السوريين والعرب إلى الحكومات المستبدة في بلادهم، تخيل معي أن جزء رئيسي من الدعاية الانتخابية قائمة على إلقاء مئات الآلاف في قبضة بشار الأسد أو السيسي أو أي بلد عربي آخر منكوب بحكامه المستبدين!!

لا يعني هذا عدم إدراكي للموقف الصعب لأي حكومة تركية تتعامل مع مئات الآلاف من اللاجئين في ظل موجة تضخم حادة والموقف الحساس أمام الناخبين الأتراك، ولكن هناك فارق كبير بين إدارة أزمة اللاجئين وترتيب أوضاعهم بما لا يتعارض مع المصالح التركية وبين استخدام هذه الورقة بشكل دنيء لتحقيق مكاسب سياسية.

والفارق في الحقيقة يعطي لي انطباع مباشر عن حقيقة الديمقراطية مع هذا النموذج الذي لا يجد حرجا في إرسال مئات آلاف من السوريين الذين فروا بحايتهم من القمع والقتل إلى نظام الأسد مرة أخرى من أجل منافسة انتخابية، فكيف يمكن أن نتخيل القيم الديمقراطية التي يمكن أن يتنازل عنها كليجدار في معرض تحقيق أي مصلحة ذاتية أو حزبية أو بمعنى آخر أكثر دقة هل مثل هذه التصرفات تعبر عن أي شيء له علاقة بالديمقراطية!!

مشاهد آخرى تؤيد انطباعاتي عن ديمقراطية كليجدار أوغلو، فأنا لا أفهم الديمقراطية من خلال ترديد كلماتها وقيمها في كل مناسبة ولكن أفهمها جيدا من خلال الممارسة العملية، والواقع انني لا أجد قيم الديمقراطية تتجلى في تصرفات الرجل داخل حزبه أم مع الأحزاب الأخرى المتحالف معها، سواء طريقة دفعه لأحد أعضاء حزبه في انتخابات الرئاسة الماضية وهو محرم إنجه والطريقة التي عمد فيها لحرقه وهو أحد رموز حزبه من أجل الحفاظ على صورته، ولا في طريقة تعامله المثيرة للجدل مع أعضاء حزبه الذين يتولون مناصب كبيرة مثل أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول، ولا حتى في أبسط مثال عن احترام الديمقراطية والشورى بشكل عملي في الطاولة السداسية والطريقة التي تم بها اختياره للترشح لانتخابات الرئاسة بالرغم الفارق الواضح جدا بين شعبيته وشعبية أمام أوغلو ومنصور يافاش، وهي جميعها مواقف ذات دلالة واضحة ومن الصعب أن يغفلها أو يتجاهلها أي شخص يحلم بتعزيز الديمقراطية في بلاده، أو أن يتخيل أن فوز مثل هذا النموذج لن يصاحبه تصرفات بعيدة عن الديمقراطية.

السؤال الأخير الذي لم يفارقني خلال ذلك الحوار الداخلي وأتمنى أن أجد له إجابة من الإعلام والدوائر الغربية المتابعة للشأن التركي، أنا بالفعل أتفهم عدم إعجابهم بأردوغان ولكن بالفعل هل تعتقدون أن فوز كليجدار أوغلو ستشرق معه شمس الديمقراطية على تركيا؟! هل بالفعل ما تروونه من مؤهلات الرجل الديمقراطية يجعل تفاؤلكم بفوزه تعبير حقيقي عن تمني لتعزيز الديمقراطية في تركيا أم أنه في الواقع تعبير فقط عن فرحة بخسارة أردوغان مع عدم إدراك أو تجاهل أو عدم اكتراث لمسار الديمقراطية في تركيا بعد خسارة أردوغان!!

ونقول ( الأمة ) :

المشكلة انك تجعل الديمقراطية (لا العدل ومراعاة الحقوق واختيار اخف الأضرار) هي معيارك  لذا وجدت على الرجل حدته في التعامل مع أرباب الانقلاب بحزم

وهنا نجد له مخرجا باستيعابه درس الثورات التي لم تحزم الأمر مع الأعداء

والحق انه يجب الحزم تماما مع الأعداء أما ملاحظاتك عن كليشدار ففي محلها والأهم أن ارتباطاته وعلاقاته مثيرة للريبة وخلاصته انه ككثير من السياسيين في بلادنا المنكوبة ما هو إلا مندوب للغرب (مستخدم أو مغرر أو عميل) فعندما نقارن لا يمكن أن نجد أمامنا إلا اختيار بين الاستقلال من طرف والتلعية من آخر مع تحفظنا كذلك على براجماتية اردوغان في مواضيع شتى وخاصة في الشؤون الخارجية وشكرا لك